صعود وسقوط أحفاد نوبل

مصنع العباقرة.. نهاية ليست سعيدة

TT

كتب ديفيد بلوتز في مساهمته المتحمسة لعالم الكتب العلمية غير الخيالية «تصور كم تكون انتقائيا حينما تريد شراء جهاز تشغيل الأقراص المدمجة.. الآن افترض أنك توقعت أن الجهاز الذي اشتريته للتو سيبقى لسبع وثمانين سنة، محتلا غرفته في بيتك ويبادر إلى الزواج ويصبح لديه أطفال، ثم يعتني بك عندما يتقدم السن بك.. أنت ستكون بالتأكيد انتقائيا أيضا».

الانتقائية هي مهمة جدا لكتاب «مصنع العباقرة»، الذي كتبه بلوتز حول الصيغة الأقصى لانتقائية المستهلكين. وهو يتجرأ في طرح «المجمع الصناعي للإخصاب»، للكشف عن قصة مملوءة بممكنات عجيبة. إنها حول صعود وسقوط «المخزن الخاص بالخيار الجنيني»، وهو البنك المنوي الذي فتح عام 1980، حيث زعم أنه يوفر أفضل أنواع الحيوانات المنوية بدرجة ذكاء تبلغ 175 آي كيو بفضل حاملي جوائز نوبل.

لكن الناتج النهائي لم يكن يضم أكثر من 200 عينة لا يعود أي منها إلى أي حامل من حاملي جائزة نوبل، وهذا واحد من الأشياء الشاذة التي وصفت هنا. والحقيقة هو أن مخزن الحيوانات المنوية استخدم الألوان لفهرسة أولئك المتبرعين ذوي الذكاء المتميز مع إخفاء هوياتهم عن الآباء المحتملين.

استخدم المؤلف بلوتز أسلوب الدعابة وجاء اهتمامه بالموضوع في البدء من خلال قصة وليم شوكلي، الذي، عن طريق ابتكاره للترانسيستور، كان «القابلة التي قامت بولادة وادي السليكون والدفع باتجاه أكبر ثورة تجارة في تاريخ الولايات المتحدة». وكان شوكلي عنصريا فظيعا جعل نفسه «واحدا من أكثر الوجوه البغيضة في القرن العشرين»، ولعب دورا أيضا في تحديد مثل العرق المتفوق لبنك الحيوانات المنوية.

ولم يكن التاسع وعشرون من فبراير (شباط) 1980، يوما مهما بالنسبة لشوكلي فقط، بل هو لروبرت غراهام، 74 سنة، المليونير «صاحب النظرة الزجاجية»، الذي عمل باعتباره الموجه لمشروع إنشاء هذا المخزن الخاص بالحيوانات المنوية، والذي باشر العمل على تحقيق حلمه المتمثل بهذا المشروع عام 1963، حينما كانت الولايات المتحدة تعيش لحظة إحياء علمي أعقب إطلاق الروس للقمر الصناعي الأول سبوتنيك. ولم تكن روح المساواة التي بدأت في أواخر الستينات، قد حلت بعد داخل الولايات المتحدة. وقد أطلق المؤلف على الفصل الأطول الذي يدور حول سيرة غراهام اسم «أنا عرفت أميرات وأمراء»، الذي يقدم تلميحا عن سلوكه تجاه أبناء وطنه بصورة عامة.

وكانت «الروح المغامرة في فتح مشاريع جديدة مع إيمان كامل بالعلوم التطبيقية وكره الجمهور الواسع الكسول والجاهل مع العشق الشديد لأفضل الرجال في العالم»، مصادر لغراهام لكي يجذب عباقرته إلى مشروعه، (أحيانا بدا بنك الحيوانات المنوية كأنه مجموعة تواقيع للمتبرعين خاصة بغراهام).

لكن فبراير 1980، كان البداية الرسمية «لأول يوم عظيم خاص ببنك الحيوانات المنوية المتأتية من الحائزين على جائزة نوبل وآخر يوم أيضا»، كما جاء في الكتاب، فالكارثة وقعت مباشرة، متجسدة بشخص اسمه وليم شوكلي. فحينما قدِّم شوكلي باعتباره أحد الفائزين بجائزة نوبل، أصبحت الفكرة بأكملها مثيرة للجدل، وهذا ما دفع علماء آخرين مهمين من الامتناع عن التبرع تحت وطأة الخوف. الكيفية التي تحول فيها البنك المنوي عن أجندته الأصلية، هي الجزء الآخر من اهتمام كتاب «مصنع العباقرة»، وهو الاهتمام بالجانب الفردي. بحث بلوتز عن طموحات الآباء الذين اختاروا مخزن الحيوانات المنوية لغرض تكوين أطفالهم، ودرس العلاقات الوراثية بين أطفال يعودون إلى نفس المتبرع لكنهم تربوا في ظروف مختلفة.

حينما بدأ بلوتز بسلسلة مقالات عن بنك الحيوانات المنوية، أصبح واحدا من أكثر العناصر جاذبية بالنسبة لمقدمي البرامج التلفزيونية. فبغياب أي طريقة أخرى لمعرفة من هم آباؤهم (البنك المنوي تم إغلاقه عام 1999)، تحول أولئك الذين يعدون من ذرية حملة جوائز نوبل إلى بلوتز للحصول على المعلومات. وهنا تكمن أرض الرمال المتحركة: إلى أي حد هو مستعد للمغامرة في الدخول إلى توق يائس وفوضوي وشخصي يقوم به أفراد حقيقيون لمعرفة أسرار حياتهم التي صاغها علم سريالي بكل معنى الكلمة؟.

يمكن القول إن معظم أجزاء كتاب «مصنع العباقرة»، قد تمت كتابته بنبرة موسيقية متوازنة تجمع بين المرح والأناقة والشك، مع ذلك فهو منشد إلى موضوعه، على الرغم من إبقاء الجزء السيئ في القصة خارج الكتاب. وتمكن الكاتب من تجنب «أسلوب البصبصة» طالما أن القصة يمكن سردها بشكل مجرد مع إبقاء شخصين ثريين وغريبي الأطوار كنقطة استهداف أساسية للكتاب، لكنه حين يحاول التعامل مع أولئك الأشخاص الذين وضعوا كل آمالهم في بنك الحيوانات المنوية، التي تعود للعباقرة، يكون قد غامر باستخدام مواد كتابية من الطراز الأول. بدون شك يمتلك بلوتز درجة عالية من التعاطف والرقة في تعامله مع ذرية البنك المنوي، لكن هذه القصة تبدأ وتنتهي مع قضايا خاصة، وليست لها أي نهاية سعيدة.

* خدمة «نيويورك تايمز» (خاص بـ«الشرق الأوسط»)