العصر تجاوز نيتشه لكنه ما زال مقروءاً

صدور طبعة ثانية لكتاب فؤاد زكريا عن صاحب نظرية «السوبرمان»

TT

لا جدال في ان المفكر المصري الدكتور فؤاد زكريا، يوجد في طليعة المشتغلين العرب بالفلسفة الغربية الذين استطاعوا نقلها باسلوب واضح قدر الامكان الى القارئ العربي، غير المتعود على مطالعة المتون الفلسفية في مصادرها الاصلية.

لا تتوافر تلك الصفات وما يشبهها الا في الدارسين المتبحرين الذين تمثلوا التراث الفلسفي الغربي واستوعبوه جيدا حتى صار بامكانهم محاورته والتعليق عليه بل مساجلة اعلامه ومذاهبه وتياراته في بعض الاحيان، بالتأييد والاعتناق تارة، والاستنكار تارة اخرى، أو التموقع في منطقة الحياد. اضف الى كل ما سبق، كما هو الحال بالنسبة لفؤاد زكريا، امتلاكه ناصية البيان العربي الذي يبسط المستغلق ويطوع المصطلح الدخيل، وينزل الافكار من عليائها، ويجردها من ثياب الغموض والابهام. وتشهد اغلب المصنفات والابحاث التي انتجها الدكتور زكريا على مدى رحلته الفكرية الزاخرة بالعطاء حتى الآن، على رسوخ وتأصل تلك النزعة في فكره وقلمه، بدليل ان الكثير من انتاجه اعيد نشره، كما ان العديد من المترجمين لكتب متصلة بالمعرفة الفلسفية، يطلبون مراجعة مترجماتهم وتزكيتها من طرفه.

وفي هذا السياق، اعيدت طباعة دراسته الرائدة عن الفيلسوف الالماني فريدريك نيتشه، للمرة الثانية في المغرب، بعد ان لاقت اقبالا من طلاب الفلسفة في الجامعة المغربية وعموم القراء الذين تمكنوا من ولوج عالم ذلك الفيلسوف الغريب الاطوار والاحوال. ولم يضف الناشر المغربي الجديد أي شيء على الصورة التي صدر بها الكتاب الواقع في 180 صفحة (حجم متوسط) في طبعتها المغربية الاولى في بداية عقد الثمانينات، اذ يبدو ان المؤلف وضع فيها خلاصة معاشرته لفلسفة نيتشه، ما أتاح له اصدار حكم صارم مبكر، في حق الفيلسوف الالماني، اذ اعتبره يتحول بحركة بطيئة وتدريجيا من دون ان يشعر بذلك الكثيرون، الى «فيلسوف تاريخي» بعد أن ظل (نيتشه) مفكرا حيا حتى منتصف القرن الماضي.

يخرج المتأمل في مقدمة الكتاب وفصوله باستنتاج اولي مفاده ان فؤاد زكريا، قتل، كما يقال، فيلسوفه الاثير نيتشه، بحثا، بدليل ان الافكار والاراء التي ضمنها في دراسته فور صدورها في مصر اواخر الخمسينات لم ير المؤلف انها في حاجة الى اعادة نظر، بعد ان عاود نشرها في طبعة ثانية هي التي اعتمدتها الطبعة المغربية. ويقول بهذا الخصوص انه لو اعاد تأليف الكتاب فما كان ليغير شيئا منه سوى ان تأتي فصوله اكثر اسهابا مما هي عليه في الصورة الحالية للكتاب.ويعد فؤاد زكريا، الفيلسوف نيتشه، نتاجا اصيلا للقرن التاسع عشر، لم يكن في وسعه وهو يعيش في ذلك القرن، ان يصدر حكما دقيقا شاملا على الحضارة الغربية المعاصرة، لسبب واضح هو ان تلك الحضارة كانت تمر بانتقال الى عهد جديد لم تكن عناصره قد اكتملت بعد، بل لم يكن بعضها قد ظهر أصلا.

وبعد ان يذكر الباحث ان القرن التاسع عشر ساده فكر قلق، لم يكن من المستغرب والحالة تلك ان تظهر نماذج شاذة لمفكرين يدعون الى الفردية المطلقة، او الى النزعة القومية الضيقة الافق، بعد ان لاحظ اولئك الفلاسفة والمفكرون ما اعتبروه انهيارا في القيم، واختفاء طبقات النبلاء والاشراف والاقطاعيين الوراثيين، وصعود طبقات العمال واصحاب الاعمال، وما رافقها من اختفاء بعض المعالم الثقافية التي كان يرعاها النبلاء، استبدلت بمعالم مغايرة لا تتميز بعراقة الاصل وامتداد الجذور في الماضي.

ويلاحظ المؤلف ان نيتشه، كان يفخر دائما انه يتحدث الى المستقبل وبأن افكاره لن تفهم الا بعد مائة عام، ويقر له زكريا، بصوابية بعض الآراء التي كانت سابقة لاوانها بالفعل، لكنه، يعتقد في المقابل ان موقف (نيتشه) من العقل العام ونظرته الى الحضارة الغربية بوجه خاص، تبدو لنا اليوم (لحظة تأليف الكتاب)، متخلفة عن ركب العصر الى حد بعيد.

ويشاطر زكريا فيلسوفه الرأي، في امكانية ظهور الانسان الارقى، ليس كما تصوره نيتشه امتدادا وارتقاء للفرد الارستوقراطي المنعزل، بل تدل الشواهد على ان «السوبرمان» الذي بشر به سيخرج من بين «المجموع»، اولئك الذين كان يعتبرهم الفيلسوف الالماني عبيدا لا سادة.

وعلى الرغم من ان الحاضر كما رآه زكريا، خيب آمال نيتشه وتنبؤاته، فانه يعتبره مع ذلك مفكرا سيظل يقرأ له الناس بشغف واهتمام، يجدون متعة في كتاباته وان تباعد الزمان بينه وبينهم، لا تغيب عنهم ملاحظة اخلاص (نيتشه) ودفاعه المستميت حتى عن القضايا الخاسرة، باسلوب غنائي رائع، وتغلغل بصيرته النفاذة في اعماق النفس البشرية، وكل ذلك لا يمنع، زكريا، من القول اننا امام فكر مراهق في عنفه ورومانسيته، لذا لا بد من التزام الحذر ازاءه وعدم الانسياق وراء تياره الجارف.

سلك الدكتور زكريا في تأليف كتابه عن نيتشه، نهجا اكاديميا كلاسيكيا، تناول في البداية فكره ونشأته تحت عناوين فرعية هي الفكر والحياة، وقائع حياته، ونيتشه وفاجنر.

وفي القسم الثاني بحث القضايا التالية: نيتشه الفيلسوف، انقلاب القيم، المعرفة والحياة، الاخلاق، فلسفته الاجتماعية، الدين والعود الابدي. وخصص القسم الثالث لترجمة نصوص مختارة من مؤلفات نيتشه.

لايذكر زكريا من المراجع العربية الا اثنين: كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوي، عن نيتشه الصادر في طبعته الثانية عام 1945 ومؤلف اللبناني بولس سلامة، بعنوان «الصراع في الوجود» (القاهرة 1954) ما يوضح ان تحرير الكتاب تم في نهاية الخمسينات.