أندريه ميكل وإغراءات الشرق

TT

يعتبر اندريه ميكل احد كبار المستشرقين الفرنسيين الذين لا يزالون أحياء، فبعد موت جاك بيرك ومكسيم رودنسون وكلود كاهين وسواهم لم يبق في الساحة إلا هو وروجيه ارنالديز وبعض الآخرين. أقول ذلك وانا أتحدث عن جيل الكهول أو الشيوخ لا عن جيل الشباب من أمثال اوليفييه روا، او برينو ايثيان، او جيل كيبيل.. ولكن كما البروفيسور ميكل الذي تجاوز الخامسة والسبعين لا يزال ناشطاً في ساحة الدراسات العربية على الرغم من تقاعده من الجامعة عام 1997م.فقد أصدر أخيرا بالتعاون مع الباحث الجزائري جمال الدين بن شيخ ترجمة مهمة للجزء الأول من حكايات ألف ليلة وليلة. وقد صدرت في سلسلة فرنسية تخصص عادة لكبار الكتَّاب والأعمال الأدبية: هي سلسلة «لا بلياد» الصادرة عن «غاليمار».

وبهذه المناسبة أدلى اندريه ميكل بمقابلة مطولة لمجلة «الماغازين ليتيرير» اي المجلة الادبية الفرنسية. وتحدث فيها عن مساره الشخصي والعلمي ولماذا اصبح مستشرقاً، وما هي الاحداث الاساسية في حياته، الخ..

وعلى الرغم من المناصب الجامعية، والإدارية الكبرى التي تبوأها هذا الباحث الكبير إلا ان حياته لم تخل من بعض الاحداث التراجيدية والمأساوية. ولا ريب في انها هي التي صقلت شخصيته وجعلته مرهف الاحاسيس وليس فقط باحثاً علمياً بارداً كالصقيع.. فبحجة الموضوعية تحول الباحثون في العلوم الانسانية إلى نوع من «الروبو» الخالي من الاحاسيس الذاتية والشخصية. ولذلك فانهم يكتبون بأسلوب جاف، لا ماء فيه ولا حياة.وأصبحوا يتوهمون انه كلما كانوا جافين اكثر زادت موضوعيتهم او علميتهم! لحسن الحظ فان اندريه ميكل ليس من هذا النوع. فهو يعرف كيف يمزج بين العلم والأدب ويعطي لكل ذي حق حقه. بمعنى آخر فان شخصية الباحث العلمي او الاكاديمي لديه لم تقتل شخصية الانسان المجروح من الداخل: أقصد شخصية الأديب أو الفنان.

ولذلك فقد نشر بالاضافة الى أبحاثه الاكاديمية العالية عن الجغرافيين العرب والجغرافيا البشرية للعالم الاسلامي عدة كتب عن الأدب العاشق واهتم بشكل خاص بمجنون ليلى وترجم أشعاره وقدم لها وحلل شخصيته كظاهرة وقارنها بما يقابلها في الآداب الفرنسية. كما نشر كتاباً عن العرب والحب، وهو عبارة عن جملة مختارات من أشعار العرب وآدابهم المترجمة الى الفرنسية.

وبالتالي فقد ساهم هذا الرجل في التعريف بأدبنا العربي إلى الجمهور الفرنسي المثقف وغيرَّ تلك النظرة المرعبة السائدة عنا في الأوساط الفرنسية والأوروبية بشكل عام. او قل ساهم في تغييرها بالقدر الممكن لان مجرد اصدار كتاب عن «العرب والحب» يعني ان للعرب أبعاداً اخرى غير الحرب والضرب!.. فالوجه الآخر للعرب، الوجه الثقافي والانساني، وجه العذاب والألم والأمل، غير معروف كثيراً في الغرب. فقد غطَّى عليه الوجه الآخر الذي تنشره الفضائيات التلفزيونية على أوسع نطاق يومياً.. وجه التفجيرات والسيارات المفخخة والتصريحات العنترية والارهابية الفارغة.

أتذكر اني قرأت لاندريه ميكل قبل سنوات طويلة كتاباً يندر ان يذكره أحد ألا وهو: الابن المبتور. وهو كتاب فاجع يصف فيه يوماً بعد يوم كيف أصيب ابنه بمرض السرطان، وكيف كلَّفه الاطباء بان يقنعه ببتر رجله لكي لا ينتشر المرض اكثر ويصل إليها الداء العضال. فتصوروا هذا المشهد: أب مطالب باقناع ابنه الذي لا يتجاوز الخامسة عشرة بقطع ساقه!!.

انه كتاب مؤلم لا يستطيع المرء ان يكمله حتى النهاية إلا بشق النفس، هذا اذا أكمله..

هناك حادثة اخرى في حياة اندريه ميكل، ولكنها سياسية هذه المرة. وقد أثرت عليه كثيرا على ما يبدو وحسمت مصيره العلمي. فعندما كان في الثانية والثلاثين من عمره أرسلته وزارة الخارجية الفرنسية في بعثة ثقافية الى مصر لإعادة فتح المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، وكذلك المدارس الخاصة في القاهرة والاسكندرية.

ولكن بما ان معركة السويس كانت لا تزال قريبة وآثارها لا تزال عالقة في النفوس، وبما ان حرب الجزائر كانت لا تزال مشتعلة فان كل ذلك انعكس على مصير المستشرق الشاب.. فقبضت عليه الأجهزة الناصرية بتهمة الجاسوسية! وبقي اربعاً وعشرين ساعة معصوب العينين لا يرى شيئاً ولا يعرف ماذا سيفعلون به. ثم سجنوه بعد استجواب عنيف لمدة خمسة أشهر متلاحقة.. ولم تستطع الدولة الفرنسية على الرغم من كل جهودها، ان تفرج عنه. ولكن لحسن الحظ فان حرب الجزائر كانت قد اوشكت على الانتهاء. ولذلك أمر الرئيس عبد الناصر باخلاء سراحه وترحيله إلى وطنه.

يقول اندريه ميكل بعد مرور اكثر من اربعين سنة على الحادثة ما يلي: ظللت عدة سنوات بعدها ملاحقاً من قبل الكوابيس الليلية. فطالما استيقظت مذعوراً في منتصف الليل وأنا أتوهم انهم جاؤوا لاعتقالي وان المخابرات تضرب على الباب برجلها حتى تكسره وتدخل الى غرفتي..

ولكن آثار هذه الحادثة لم تكن كلها سلبية.. فالواقع ان إمضاء خمسة أشهر في سجن مغلق أجبره على التفكير العميق بمستقبله. وهي التي حسمت مصيره الشخصي والوظيفي. فقد كان يحلم بمنصب سفير لاحقا: اي الاعتلاء في المناصب الديبلوماسية. ولكنه بعد تجربة السجن الانفرادي المعزول اقتنع بان أجمل وأمتع مهنة في العالم: هي مهنة الباحث المفكر والأديب. ولذلك أقلع عن التفكير بالسلك الديبلوماسي وراح يكرس كل طاقاته للكتابة والبحث العلمي حتى وصل إلى أعلى المناصب: استاذ اللغة والآداب العربية الكلاسيكية في الكوليج دو فرانس. وهي أعلى مؤسسة جامعية فرنسية: أي أعلى من السوربون. وهي تحتوي على خيرة العقول الفرنسية في شتى الاختصاصات. فمثلا كان من أعضائها الناقد رولان بارت، والفيلسوف ميشيل فوكو، والمستشرق جاك بيرك، والمؤرخ الشهير فرنان بروديل، الخ..

وأخيراً فان الشيء اللافت للانتباه في قصة اندريه ميكل هو انه كان يمكن ان تدفعه في اتجاه كره العرب والتخلي عن مشروعه التالي:

تكريس كل عمره لدراسة تراثهم الفكري وآدابهم. ولكن الذي حصل هو العكس تمامًا. فقد أصر الرجل على مشروعه، بل وعمقه اكثر وقدم بذلك ليس فقط خدمة كبيرة للآداب العربية وانما مثلا أعلى على تجاوز الحزازات الشخصية ومفاجآت الحياة.