الفنتازيا في خطاب الرحالة العرب

الرحّالة العربيّ بوصفه شاعراً

TT

لن نقول جديداً إذا قلنا بان أدب الرحلة في الثقافة العربية الإسلامية يقدِّم، في الغالب، وصفاً موضوعياً لمجموعة من المعطيات الجغرافية والإثنية والمعمارية واللغوية لتلك البلدان والمدن التي جال بها الرحالة العرب.إن درجة الموضوعية تظل في حالات كثيرة موضع تساؤل مشروع طالما أن الأمر يتعلق بمستوى المعرفة العامة السائدة في حقبة محددة من التاريخ. ثمة إذن (نسبية معرفية) إذا صح التعبير يجب وضعها في الاعتبار عند قراءة أدب الرحلة العربي.كما ثمة نسبية مماثلة (قيمية) و(أخلاقية) في توصيف الرحالة لسكان لا يتحدرون من ذات التقاليد الثقافية والأخلاقية لتقاليد ومعايير الرحالة. ففي وصفه لسكان إحدى الجزر الآسيوية المسلمة يندهش ابن بطوطة أشد الاندهاش من طريقة النساء المسلمات هناك في اللبس. إنه يعتبر الزي الذي اعتاد عليه معياراً نهائياً ومطلقاً لطريقة اللباس في العالم كله. وهو أمر ما زال يفعله الكثير من البشر في العالم، مشرقاً ومغرباً حتى يومنا هذا. سوى أننا نلاحظ أن هذا التقييم الأخلاقي قد تشذَّب وتحسَّن كثيراً لدى الرحالة مقارنة بتقييم مجايليه ممن لم يحتكوا البتة، أو قليلاً، بشعوب أخرى. تدلُّ هذه النقطة على أن وعي الرحالة العرب كان يتجاوز المعطيات القيمية المستقرة في ثقافته العربية الإسلامية بحيث انه لم يعد يعاني من أي ضيق أفق، وأنه قد طوَّر انفتاحاً معقولاً على (الآخر). انفتاحٌ لم يكن سمة من سمات القرون الخوالي. هذا الانفتاح، بل هذا الاكتشاف لفكرة وجود (آخر) مغاير يتوجب قبوله، هي واحدة من الأفكار الأكثر جدة في تاريخ البشرية.

كان الرحالة يقوم بنوعٍ من دور المستشرق ولكن من وجهة نظر معاكسة. ومثل مستشرق بداية القرن العشرين فليست المعرفة الموضوعية وحدها ما كان يقوم في صلب انشغاله، لأن هناك شيئاً، قل أو كثر، من الفنتازيا، من المخيال، من الإسقاط الثقافي على حقل آخر، كما شيئاً من التعالي ومن الحلم الشعري الرومانسي في حالات أخرى من الاستشراق. إننا نعلم أن هناك الكثير من المشاريع الاستشراقية التي لم تكن تنتوي فحسب الاكتفاء بوصف ذي غايات مغرضة للعالم العربي، وأنها كانت تتضمن هياماً رومانسياً بالشرق لا علاقة له بالضرورة بالنزعة الاستعمارية.

إن هياماً حالماً مماثلاً كان يقع كذلك في عمل الرحالة العربي. فمن جهة لا نظن أن الدوافع والمحركات الأساسية للقيام برحلات كبرى مثل التي قام بها ابن بطوطة وابن جبير كانت فحسب استكشاف جغرافيا العالم وثقافاته القديمة، كما لم تكن تنطلق من دعوات تبشيرية ممولة من طرف حكومي، ولم تكن حتى تنطلق من وازع تديّن شخصيّ. لقد كانت تتضمن توقاً فردياً للانعتاق وجموحاً داخلياً عند الرحالة في جوبان الآفاق أكثر مما كان يوجد سبب وظيفي مباشر، إلا إذا اعتبرنا فريضتي الحج والعمرة، اللتين انطلقت غالباً بسببهما الرحلة، دافعاً وظيفياً.

يقوم الرحالة العربي بسفرته منطلقاً من ضرورة ملحاحة في (ارتياد المجاهيل)، وهذه العبارة ذات دلالة كبيرة في السياق الحالي لأنها تبين أن المجهول هو أحد الأهداف المباشرة لعمل الرحالة. ارتياد المجاهيل و(معاينتها) لكي: «يتثقف به رأي من عجز عن سياحة الأرض» على ما يقول أبو دُلف في مقدمة رحلته. المجهول هو صيغة شعرية عن جدارة لأنه ينسجم ويتطابق مع بحث الشاعر في ملامسة الغامض في المكان كما في الخروج من الزمان عبر الحلم والحدس وجميع الكشوفات الروحانية الأخرى. تتضمن الرحلة كشفاً من نمط آخر، وليس المعرفة لوحدها، كشفاً شعرياً لأنها تتضمن بشكل أساسي:«نزهةَ الخواطر وبهجةَ المسامع والنواظر من كل غريبة أفاد (الرحالة) باجتلائها، وعجيبة أطـْرَفَ بانتحائها» كما يذكر ابن جُزّي الذي من دون رحلة ابن بطوطة. ليس الرحالة العربي مجرد رجل (يرحل)، ليس (راحلاً) أبدياً إنما تخفي صيغة التشديد (فـعـَّالة ـ رحَّـالة) برنامجاً أبعد من فكرة السفر السعيد، البعيد. ومثل (البحَّاثة) الذي هو ليس مجرد (باحث)، لأنه متعمق تعمقا شديداً بدقائق موضوع البحث، فإن (الرحّالة) متوغلٌ بشكلٍ وجودي بدقائق موضوع السفر، كأن الصيغة تعادل، مفهومياً، فكرة المغامر والمُسْتكشِف الجريء الذي يخوض الأهوال من أجل متعة الكشف الكبرى رغم ما قد تنطوي عليه من معارف جغرافية وبشرية وتاريخية جمة. تلامس المغامرة المحفوفة بالأهوال والمعارف، بدورها، مغامرة الشعر في ارتياد مجاهيل الكائن والكينونة.كلٌّ من الشاعر والرحّالة يكتبان نصاً مشدوداً إلى الغرابة، إلى غير المعروف، إلى الغامض، إلى الذات في اصطداماتها المستمرة بالآخر، وإلى تشذيب معرفة الذات عبر احتكاكها بجسدٍ غير مماثِل ولا متناظِر. نصّاهما يتدفقان بالمفاجآت والحكايات الساحرة والمناخات العجيبة. وإذا ما اختلفت أدوات كتابة ذينيك النصين، نثراً وشعراً، فإنهما يلتقيان، من الداخل، في التوق إلى نقل طقس روحي خاص ووصف كينونةٍ مغايرة.

لدى الاثنين مدى شاسع يتوجب اختراقه، كلٌ بأدواته الخاصة. مدى أرضي، حسيٍ منطوٍ على مفاجآت متوالدة الواحدة من قلب الأخرى. إنهما يقلبان الآفاق: الشاعر حالماً حاذقاً مسحوراً بالأماكن، والرحالة مُسَرْنـَماً وصَّافاً للأماكن، الأول مأخوذٌ بحدوسات تقوده إلى يقين مترجرج، والثاني أرضيٌّ مسكون بفكرة الاكتشاف الذي سيقود إلى يقين معرفي. المعرفة هدفهما بوسائل ومناهج بحث تليق بطبيعة انشغالهما. الشاعر تشغله اللغة المنطوية على الفكر والرحالة الكشف المنطوي على التفكـُّر.

(المعمورة) برمتها حقل اختبارهما الفرق بين نصيهما يقع في طريقة الوصف، ففي حين ينحني الشاعر على تقديم أشياء المعمورة المحسوسة بصيغ استعارية، مُقَارِباً الملموس باللامحسوس، محاوِلاً الاقتراب من جوهر المعمورة، من العمق العميق للعالم، ومن معنى العالم بالنسبة للبصيرة، فإن وصف الرحالة يتبقى في إطار لغة معقولة منذ البداية، لغة سردية مهمومة بالموضوعي المحسوس والمعنى العقلاني، وبتقديم المشهد كما يراه البصر قبل أن تتدخل البصيرة في تأويله. نص الشاعر، إزاء نص قرينه الرحالة، هو توصيفٌ للداخلي الـمُثار بالمشهد المرئي، في حين أن متن الرحالة هو تقريرٌ لأوصاف الخارجي المبحوث عنه بشدة، المشدودة الرحال إليه، الخارجيُّ المقصود قصداً من أماكن نائية. هذا الفارق يمسُّ فكرة (الخيال) نفسها المعتملة في عملي الرجلين كليهما. فكلاهما يمتلك، في حقيقة الأمر، مخيالاً خصباً مُثاراً بالوقائع العيانية ومُسْتَفَزَّاً بمرأى المرئي. وإذن فان الفكرة الجوهرية لهذا المفتتح هي التالية: ان الشاعر والرحّالة المدفوعين بضرورات، خارجية وداخلية، قاهرة نحو كشف معرفي ما، يمتلكان مشتركاً ذا وسائل متباينة ألا وهو امتلاك (مخيلة) خصبة وحادة ونفَّاذة.

وإذا ما كانت (الاستعارة) ونتاجها المباشر الصورة الشعرية الأداتين الرئيسيتين اللتين نرى عبرهما كيف تشتغل (مخيلة) الشاعر، فإن (التخيُّل) ليس بعيدا أبداً عن عمل الرحّالة العربي بل يقع في صلبه. لا نمنح التخيُّل هنا بعْداً تعميمياً عريضاً، ولا نعني به البتّة تلك القدرة الموضوعية على تخيل المسافات، تقديرها وتقريبها، ولا نريد منه القدرة على التوقُّع والاستنتاج الحدسي بأدلة طفيفة وبظروف قاسية، بل نريد منه تلك العملية الاستعارية ذاتها والمجازية نفسها التي تتطابق، قليلاً أو كثيراً، مع استعارة الشاعر الذي يكتب قصيدةً.

نقول ان الرحالة كان رجلاً يحلم كذلك، ويلقي نصه ببلاغات واستعارات وخيالات كاملة، خاصة في أوائل الرحلات العربية المعروفة. لا يتوانى ابن فضلان (سنة 921م) عن أن يرى «غيما أحمر مثل النار قريبا مني، وإذا تلك الهمهمة والأصوات منه، وإذا فيه أمثال الناس والدواب».

هذا الإسقاط الفنتازي يماثل بعض آليات التخيل الذي يُثار لدى الشعراء والرسامين وهم يستنبطون من الخربشات العشوائية وبقع الرطوبة على الحيطان والظلال الواقعة على الكتل الناتئة مادة لمخيلتهم ويرون (صوراً) لا علاقة لها البتة بالمرئي الموضوعي.

مرة أخرى يتباعد المشهد الموضوعي عن موضوعيته ويقفز إلى حقل شعري يتوسل بالخيال لكي يقول وطأة الحالة الموصوفة. لا تعاود هذه الكتابة وصف الواقع بقدر ما تقول فنتازيا حادة عن الواقع.