الشيخ إمام: تعتيم مصري واحتفاء روسي في القاهرة

عرضت عليه فرنسا اللجوء السياسي في الثمانينات ورفض

TT

تأتي مشروعية هذا السؤال على خلفية التعتيم الذي مارسته (ولا تزال) الأجهزة الإعلامية الرسمية المصرية، على رحلة عمر وعطاء الثنائي إمام ـ نجم أو نجم ـ إمام، بالرغم من الشعبية العربية الواسعة التي تمتعا بها منذ الستينات وحتى الآن. ولو كان الشيخ إمام حياً لطمأناه، بل لطمأنه جيل من شباب مصري واعد يحفظ أغانيه عن ظهر قلب، ويقدمها في ثوب غنائي ومسرحي جديد، شهده جمهور واسع من جميع الأعمار، حتى الأطفال، في الاحتفالية المميزة التي أقامها المركز الثقافي الروسي بالقاهرة يوم الثلاثاء الفائت، بمناسبة مرور عشرة أعوام على رحيله. وتأتي هذه الاحتفالية التي أقيمت لمساء يوم واحد، الثانية بعد التظاهرة الكبرى التي أقيمت في العاصمة التونسية، في أول يونيو الجاري واستمرت لأربعة أيام، لإحياء الذكرى العاشرة لرحيل الشيخ إمام عيسى، الذي بادل تونس وغيرها من الدول العربية الحب منذ زمن، وكان حديثه المطول لإذاعة تونس الدولية لا إذاعة مصر، التي منع وأغنياته عنها حتى اليوم، من أهم ما يعود إليه الباحث في أرشيف الشيخ إمام. وهو مما اعتمد عليه موقع مصري حديث على شبكة الإنترنت يدعى «كنانة»، في إنشاء صفحات خاصة بالشيخ إمام أطلق عليها اسم «قعدة مولانا»، تقدم أحاديث وصور وأغاني الشيخ إمام لمحبيه. وتم الإعلان عن إطلاق الموقع بصفحاته من خلال حفل المركز الثقافي الروسي. وقد دأبت تونس على الاحتفال بذكرى إمام في تظاهرات كبرى، منها الاحتفال بذكراه الثامنة الذي تم افتتاحه بفيلم فريد عنه هو «سهرة مع الشيخ إمام» للبنانية رندة الشهال. أما المركز الثقافي الروسي فيعتبر الجهة الوحيدة في مصر التي تولي ذكرى الشيخ إمام اهتماماً، وقد احتفل من قبل بذكراه السابعة والثامنة والتاسعة. وقد تحفزت نقابة الصحافيين المصرية هذا العام، فأعلنت عن إقامة ندوة بمناسبة ذكراه يتحدث فيها رفيق درب إمام، ومؤلف معظم أغانيه، الشاعر أحمد فؤاد نجم. أما لماذا يكون المركز الثقافي الروسي دون غيره الجهة الوحيدة التي أولت ذكرى إمام اهتمامها لسنوات، فالإجابة الأولية والمباشرة التي تتردد، تكون في ارتباط مشوار إمام باليسار المصري. وهذه مقولة تحتاج لمراجعة، وإن تطابقت مع واقع حي، وسبب المراجعة يعود إلى كلام إمام نفسه عن اليساريين والشيوعيين في مذكراته، حيث يقول: «... كل ما كان يربطني بهذا الاتجاه هو وحدة الهدف.. فاليسار يدافع ـ أو هكذا قالوا ـ عن حقوق الفقراء والطبقات المطحونة ويرفض الظلم.. والإسلام جاء حاملاً نفس المبادئ والقيم. وفي الإسلام نفسه هناك يسار.. الإسلام الذي يمثله صحابة أجلاء... أما ما عدا ذلك من أفكار الشيوعيين واليساريين فلهم دينهم ولي دين..». وبغض النظر عن السبب الذي دفع بإمام لهذه المقولة، فلن تكون يساريته أو لا يساريته، هي السبب الأوحد الذي دفع الدولة التي تصالحت مع عدد من اليساريين إلى تجاهله طوال هذه المدة، بل لن يكون السبب سوى قدرته مع كلمات نجم الحادة والثرية، على تحريك الجماهير الشعبية العريضة، التي لم يكن بمقدور أي عريضة سياسية من أي اتجاه أن تفعله، وهي الميزة التي تتمتع بها أغاني إمام حتى اليوم، فالقضايا المطروحة في أغانيه حول ما يدور في مصر والعالم العربي لا تزال قائمة، ومن ثم لا يزال التعتيم قائماً. وإذا كان حفل المركز الثقافي الروسي قد بدأ بكلمات ترحيب قليلة من رئيس المركز أوليك فومين، الذي لا يعرف الكثير عن إمام، وإن أدرك أهميته، فقد تحدث شريف جاد مدير النشاط الثقافي بالمركز عن جوانب خاصة بحياة إمام، منها زيارة قام بها للشيخ إمام في بيته قبل وفاته، وعاب على اليسار المصري عدم احتضانه لإمام في أيامه الأخيرة رغم أنه حسب عليه، كما أشار إلى المفارقة بين التعتيم الإعلامي على إمام في مصر، وشهرته الواسعة ليس فقط في الدول العربية بل لدى العرب المهاجرين في البلاد الأجنبية، منهم من استمع إليه مباشرة، ومنهم من سمع عنه، كالشاب المصري باسل، المقيم في إسبانيا، ويقوم بتصوير الحفل كجزء من فيلم ينوي تقديمه عن حياة الشيخ إمام.

* تعطّش لغناء يثير الأحلام

* وربما تكون هذه هي المرة الأولى التي لم يتحدث فيها أحمد فؤاد نجم طويلاً في مناسبة يحضرها، وفضل أن يقول كلمات عن بعض طرائفه المعروفة مع إمام، ليترك للجمهور الفرصة ليشاهد ما يقدمه الشباب على المسرح. وحرص القائمون على الحفل على أن تكون كلمات المتحدثين قصيرة وخارج خشبة المسرح، كفواصل بين العروض. وبدأ البرنامج الفني للاحتفالية بفقرة من الفنان أحمد إسماعيل، الذي يحمل إمام في قلبه قبل لسانه، مصطحباً عوده وبطانة من ثلاثة أطفال موهوبين، شدا معهم بأغاني إمام، «لبان دكر» كلمات فؤاد قاعود، و«يا فلسطينية» و«عطشان يا صبايا» و«ساعة العصاري» من كلمات نجم، وشاركته الغناء في الفقرة الثانية الفنانة الصاعدة، صغيرة السن واضحة الموهبة زينب نجم، ابنة أحمد فؤاد نجم. تلاهم ثنائي فرقة «البنادرة» التراثية الذي حصل على التصفيق طويلاً، غناء شيماء، وغناء وعزف على العود لمحمد عزت، وقد ردد الجمهور مع شيماء أغنية «البحر بيضحك ليه»، التي برعت في أدائها. وكان من الواضح خلال الفقرتين تعطش الجمهور المتنوع للأغنيات التي تثير المشاعر والأحاسيس تجاه آمال وأحلام مشتركة، بغض النظر عن النوع أو الطبقة الاجتماعية. وكانت المفاجأة الجميلة في العرض المسرحي الخاص الذي قدمته فرقة «الطمي» المسرحية، المكونة من مجموعة من الشباب والشابات، لا يزال بعضهم طلبة في الجامعة. وقام العرض على فكرة الإسكتشات المسرحية، التي يقوم كل منها على أغنية للشيخ إمام. واعتمد فريق العرض على قطع ديكور بسيطة ومحمولة، وارتدى جميعهم الجينز، فكان بطل العرض هو الأداء، وقد ظهر من خلاله مدى التدريب الجيد الذي قاموا به.

* الوريث الشرعي لسيد درويش

* وقد تحدث المتخصص الموسيقي أشرف السركي عن مشروع مقترح لتقديم أغاني إمام موزعة بشكل عصري على شرائط كاسيت، من خلال فرقة كاملة بدلاً من العود وحده والضجيج الذي يلازم جلسة السمع، ويمكن في هذه الحالة طرحها في هيئة سي دي (أقراص مدمجة) أيضاً. وقال السركي، إن اليسار المصري تفاعل مع إمام من الناحية السياسية، هذا حقيقي، وهناك من هاجمه لذلك، لكن إعلاء القيمة الفنية لإمام على القيمة السياسية سيساعده، لأنه الوريث الشرعي لسيد درويش. وبالرجوع لكلمات المفكر المصري فؤاد زكريا في مقال له بعنوان «حول ظاهرة الشيخ إمام»، نجده يقول عن إمام: «إننا حين نعامله على أنه واحد من المشتغلين بالموسيقى فحسب، وحين نقارنه بغيره من الموسيقيين ونطبق عليه مقاييس هذا الفن، فنحن إنما نعالجه معالجة سطحية... هو يجمع بين صفة الفنان وصفة الخطيب السياسي والناقد الاجتماعي الساخر... إنه باختصار يقدم نوعاً من الأداء يتخطى الحواجز التي ألفناها بين الفنون، بل بين الخيال الفني والواقع الفعلي للناس».

* ضابط الإيقاع: الشيخ لم يمت معدماً

* أما من جلس بين الجمهور مستمعاً، فكان محمد علي، ضابط الإيقاع، والكورس الوحيد في كل الأغاني، والرسام أيضاً، الذي يكمل الفريق إمام ـ نجم ويجعله ثلاثياً. وخارج القاعة وقف يحدثني عن بعض ذكريات الفريق، أمام لوحة رسمها لإمام محتضناً عوده الشهير، لم يذكر جديداً عن حياة الشيخ إمام، الذي ولد فقيراً في قرية أبو النمرس بالجيزة، وفقد بصره بعد أن عالجته أمه بوصفة بلدية من رمد أصاب عينيه، وألحقه أبوه بالجمعية الشرعية السنية، فحفظ القرآن، وشدا في بطانة المنشدين في الأفراح، وتحددت معالم حياته بدخوله حارة «خوش قدم»، التي تعني قدم الخير، حيث كانت البداية في تعلمه أصول الموسيقى والموشحات، على يد أحد كبارها وهو الشيخ الحريري. لكن محمد علي يختلف مع من يقول إن إمام مات معدماً، بل يؤكد أن بعضاً من المال الذي جمعه إمام من رحلاته، خاصة رحلته لفرنسا، ظل موجوداً إلى أن تسلمه الورثة. ففي منتصف الثمانينات تلقى الفريق إمام ـ نجم ـ محمد دعوة من وزارة الثقافة الفرنسية لإحياء بعض الحفلات هناك، وبالفعل كانت تلك الحفلات من أنجح حفلات الفريق، ومما أكد عليه محمد على، أن فرنسا عرضت عليهم البقاء وتسجيل مجموعة اسطوانات، مما كان سيعود عليهم بالكثير، لكن كان الشرط هو البقاء في باريس تحت صيغة اللجوء السياسي، مما جعلهم يرفضون ويعودون إلى مصر، وفي حضرة إمام يطول الحديث عن مصر، فتركت محمد علي وهو يردد «مصر يا أمه يا بهية...».