«نيران الأناضول» في دار الأوبرا المصرية.. متعة لا تُنسى

عرض شاهده أكثر من 3 مليارات مشاهد في العالم

TT

من حقهم أن يصفق لهم جمهور الأدوار الثلاثة المكتظة داخل «المسرح الكبير» في «دار الأوبرا» المصرية وقوفا على مدى أكثر من عشر دقائق متواصلة، لا يريدونهم أن يغادروا مسرحنا ولا هم يريدوننا أن نغادر مقاعدنا.. فالفن دورة حياة قصيرة إذا كانت ممتعة يتشبث بها متذوقها بكل طاقته، هكذا تفاعل الجمهور المصري مع العرض الراقص التركي «نيران الأناضول» من إخراج مصطفى اردوغان بعد إمتاعنا ومنح ذاكرتنا وقنوات استقبالنا هدية لا تنسى.. يقول المخرج والمدير الفني اردوغان في تمهيده لهذا العرض إن الراقصة الأيرلندية الشهيرة إيزادورا دانكن التي عاشت في أمريكا القرن الماضي، أسست نظريتها عن الرقص المسرحي الحديث عندما اتجهت إلى بحر إيجه وصممت رقصاتها وتفاعلت مع جسدها بمنطق الانتفاضة والنزعة إلى الحرية والثورة بعيداً عن الالتزام المقيد للروح والجسد. وقد لخصت إيزادورا دانكن نظريتها عن الرقص الحديث في عبارة «إن الرقص هو الاستسلام إلى ديونسيوس». ولأن هذا التوجه يتوافق مع المنهج الفكري للفرقة ومديرها فقد سار على نفس النهج، خاصة انهم أبناء الحضارة الآسيوية ومن حقهم أن يعتزوا بهويتهم وقوميتهم يقدمونها ويطورون في فنونها. نتوقف عند هذه النقطة بكثير من التأمل، لنجد أن أهم جذور نجاح هذا العرض هو عدم تخليه عن ثقافته وموروثاته بكل ما فيها من معتقدات وطقوس وروح، مع الإعلاء من شأن الفلكلور والافتخار بالقومية والبحث عن الهوية داخل جذورها لا خارجها. كان من المقرر أن تطوف الفرقة بهذا العرض في دول العالم أولا وتختتم عروضها داخل بلادها تركيا. لكن العكس حدث عندما استمرت العروض داخل تركيا شهورا طويلة، وبعدها استطاعت هذه الفرقة الكبيرة التي تضم مائة وعشرين راقصاً وراقصة، وبصعوبة كبيرة، بدء جولاتها حول العالم التي لم تنته إلى اليوم، حتى وصل عدد مشاهديها قبل العرض داخل مصر إلى ثلاثة ونصف مليار مشاهد. وهذا الرقم ليس خطأ مطبعيا لأنه كذلك بالفعل. كما خصت دار الأوبرا هذا العرض بدعاية إعلامية خاصة جدا كيفا وكما بعثت على التشويق والإثارة قبل العروض بفترة طويلة نسبيا، تقديرا لمكانة هذه الفرقة. وقد حصدت هذه النزعة الإدارية المنظمة ثمارها الإيجابية بامتلاء كل أدوار الأوبرا الثلاثة عن آخرها بمقاعدها الأساسية والإضافية، حتى من جاءت مقاعدهم في أماكن لا تساعدهم على الفرجة الواضحة، تطوعوا بسعادة بمشاهدة هذا العرض الطويل وقوفا، متناسين قيود رباط العنق الخانق في هذا الحر الشديد. استوحى عرض «نيران الأناضول» أفكاره من شامان الأتراك من آسيا الوسطى والزرادشتي وأكراد يزيدى ورقصات مسلمي أليفي ورقصات فلكلورية من جنوب شرق تركيا، كما استوحاها من موروث الأناضول الشرقية وإيجه والبحر المتوسط، إذن لا بد أن نتوقع نوعية دراما تتناسب مع طقوس الأساطير السحيقة، لا تتعامل مع حبكة شديدة التماسك وشخصيات ذات تركيبة واضحة، لكنها في المقابل تركز اهتمامها على الاستعارات الرمزية وتقف عند حدود الفانتازيا بحسابات متوازنة. في البداية يتصاعد لهيب النيران من فوق قمة الجبل الخالد نمرود، وهناك تبدو كل المخلوقات مباركة وتنغمس في اللهيب مع لغة الجسد المقدسة، ثم تقدم للشمس فوق قمة جبل النار حيث تعانق الشرق والغرب. وعند أقدام أول نصب تذكاري للسلام يأتي برومثيوس رمز الخير من الأناضول بجذوة النار البشرية، فإذا بها تتدفق وتنتشر في العالم أجمع كنهر يسبح في نورانيات لا نهائية. لكن الإله زيوس الذي لا تعجبه سطوة البشر وهيمنة الخير، يرسل بطوفان من العواصف لابتلاع نيران البشرية ويقرر عقاب البشر بإرسال باندورا محملا بكل الشرور لتبدأ الحرب الشرسة بين الخير والشر. ونلاحظ هنا أن طبيعة هذه المعارك الذهنية الفكرية والجسدية أيضا لا تنتهي بعد معركة واحدة كما يتوقع البعض، فقد امتدت على مدى العديد من الأشواط ليتبادل كل طرف الانتصار والهزيمة مرات عديدة. لم يكن البحث عن الطرف المنتصر هو الهدف الأساسي، فالخير والشر قاعدتان أصيلتان في التركيبة البشرية ومن الطبيعى أن يتغلب كل منهما على الآخر مرات عديدة، طالما أن البشرية لا تنتمي لا للملائكة ولا للشياطين. من هذا المنطلق جاءت نهاية العرض شديدة الواقعية رغم استخدام الطقوس والاستعارات وأجواء الآلهة الخارقة، عندما لم يعلن تغلب فريق على آخر أبدا بل مدت جسور التعاون بينهما بنسب مختلفة إيذانا بمولد البشرية وهي ترتدي الثوبين الأبيض والأسود معا.. وإذا كانت الدراما لا تحمل القوة الكافية طبقا لطبيعة صراعات الأساطير، يأتي تميز هذا العرض في تكامل عناصر السينوغرافيا والإضاءة والموسيقى وتصميم الرقصات بقيادة المخرج التركي الموهوب بحق مصطفى اردوغان. استطاع المخرج توظيف العناصر البشرية المتمثلة فى عدد ضخم من الراقصين، وقادهم لتكوين العديد من التشكيلات والتكوينات الدرامية الجمالية طبقا لمدلول لحظة الصراع الدرامي، بدءا من رقصة الفرد الواحد متدرجا عبر الثنائيات والثلاثيات والرباعيات وهكذا حتى يصل إلى صهر الفرقة كلها في نقطة واحدة وكأنهم راقص واحد متعدد الرؤوس. اعتمد المخرج بشكل أساسي على تدرجات لون لهيب النيران على مستوى الملابس ومنهج الإضاءة. فالراقصون في الفصل الأول يرتدون اللون البرتقالي المصحوب بالعديد من ظواهر التطريز الجمالية، ويتولى المخرج طوال الوقت مهمة ملاحقة هذا اللون الصارخ ويزيده جمالا ومعاني بتسليط شحنات متوالية من كشافات اللون الأخضر النقي واللون الأزرق كموج البحر، مما خفف من حدة اللون البرتقالي ذاته، ولعب أيضا على اشتقاقات نيران الحياة بوجهيها الخير والشرير.

أما على المستوى الموسيقي فقد تواصلنا مع معظم الفصل الأول من خلال جمل موسيقية مسموعة من دون فرقة مصاحبة، ثم بدأ الراقصون واحد تلو الآخر يستخدمون الآلات الموسيقية الإيقاعية الحية أمامنا خاصة الطبلة العادية وآلات الإيقاع الجانبية التي يدق عليها العازف بعصا رفيعة من الجانبين. وكان واضحا تماما مدى إتقان الراقصين ليس فقط للرقص والالتزام التعبيري ووحدة الهارموني والعزف على الآلات الموسيقية المختلفة، وإنما أيضا إتقانهم البارع لعملية التزامن الذهني العاطفي الحركى في نفس الوقت، حتى وإن كانت أيديهم وأجسادهم تؤدي فعلا مختلفا تماما عن أقدامهم. في نفس الوقت استفاد المخرج من عدد الراقصين الضخم قبل وأثناء استخدامهم الحى لللآلات الموسيقية الإيقاعية، في تحويلهم هم أنفسهم إلى مرسل جيد جدا للعلامات الصوتية بانتظام بعض الصرخات المصاحبة للرقصات، مع ترك مساحة ما لانفراجة الارتجالات لديهم ثقة بقدراتهم ووعيهم الفني الراقي. وفي النهاية يكفي أن يرى المتفرج هذا الفن الراقي، ليقول: «من حسن حظي انني شاهدت ذات يوم عرض «نيران الأناضول».