العالم لم يعد كتابا ولا مكتبة وإنما شاشة ضوئية أو رقمية

تطور وسائل الاتصال من غتنبرغ إلى الإنترنت

TT

ثمة أكثر من رابط أو وجه شبه بين أدوات اتصال اليوم والأمس. ومهمة الكشف عن مسار الوسائط التاريخيّ والاجتماعي هي ما يتعرض له كل من «آسا بريغر» و«بيتر بورك»، وهما مؤرخان يهتمان بالشؤون الاجتماعية والثقافية، في كتابهما المشترك «التاريخ الاجتماعي للوسائط» الذي نشرته أخيرا الكويت ضمن سلسلة عالم المعرفة. والعنوان الفرعيّ للكتاب «من غتنبرغ إلى الإنترنت»، يحدد الفترة التي يدرسها، وما يجدر بالملاحظة هو ان الكاتبين يبدآن من المرحلة التي تعتبر منعطفا حادّا في علاقة الإنسان مع الكتابة، أي من لحظة الانتقال من الكتابة الخطيّة إلى الكتابة الآلية وصولا إلى الكتابة الرقمية.

ويلفت الكاتبان النظر إلى انه من الغبن اعتبار عصر الاتصال هو ابن التقنية وحدها، فكثيرون اليوم أولئك الذين يفتحون كتب التاريخ القديم لمسك الخيط الأوّل من سيرة حياة الاتصال، بل إن رجالات الاتصال يشيرون إلى الدور الذي لعبته كل من اليونان وبلاد الرومان في مجال الاتصال الصوتي، من خطابة ومسرح، كما يعلن الكاتبان انه من الضروري الوقوف عند مفهوم البلاغة القديمة ودراسة وظيفتها على ضوء ما تقدمه لنا علوم الاتصال اليوم لنرى ذلك التشابه، وهي دراسة ضرورية لأنها تعمق من فهمنا لوظائف أدوات الاتصال نفسها. ويقول مؤلفا الكتاب انه من المستحيل دراسة الوسائط اليوم من جانب علم واحد فقط، لأنّ في ذلك تغييبا لعلوم كثيرة ساهمت في تشكيل كل ما تتمتع به الحواس البشرية اليوم من وسائل تواصلية. فلا يمكن الاكتفاء فقط بالناحية التقنية، لان علماء الاجتماع والانثروبولوجيا وعلماء اللغة وكذلك علماء الاقتصاد ساهموا بقدر ما ساهم المهندسون في تشييد هذا الصرح التواصلي الشامخ. والوسائط اليوم إذا ما درست بمعزل عن تاريخها فإنّ ذلك سوف يؤدي إلى إحداث فجوات معرفية قد تمنع من الانتفاع بها على النحو المأمول. فالوسائط متناسل بعضها من بعض، ولا بدّ من الربط بينها، فيقول المؤلفان على سبيل المثال ان المسلسلات التلفزيونية تتبع نموذجا سابقا عليها هو نموذج المسلسلات الإذاعية، وهذه بدورها لم تكن غير محاكاة للروايات المكتوبة التي كانت تنشر مسلسلة في مجلات القرن التاسع عشر، فأعمال الروائي الروسي دوستويفسكي أو روايات الكاتب الإنكليزي ديكنز أو روايات الفرنسي بلزاك كانت تنشر على حلقات قبل أن تتحول إلى كتب، أي أن الاستراتيجية واحدة، وان اختلفت وسيلة الظهور. والاتهامات التي تكال لكل وسيط جديد هي نفسها التي كانت قد كيلت وقيلت في وسائط باتت اليوم من الأدوات الكلاسيكية في التواصل، وكأن الإنسان باستمرار لا يرى في الجديد لذة بخلاف القول المأثور، بل على العكس يشعر بنوع من الذعر من هذا الوافد الجديد والمجهول، وهذا إلى حد كبير أمر فطري، وما أكثر الحكايات والطرائف التي تشكل كنزا لعلماء الاجتماع والنفس والانثروبولوجيا حول علاقة الإنسان مع المكتوب في بدايته، أو الرسم أو النحت قديما وكلها أدوات اتصال. لأن كل جديد يزعزع الإنسان عن عادات قديمة باتت في حكم البديهة، هذا ما حدث في تاريخ التدوين، الذي شهد صراعا بين المكتوب والمنطوق أي بين الذاكرة والأشياء الأخرى القابلة للتصحيف، رغم رعونة الذاكرة. فيتكلم الكاتب على ردود الأفعال حول الروايات الرومانسية أول صدورها والمسرحيات والخوف من تأثيرها السلبي في جماهيرها، حتى ان رئيس أساقفة ميلانو في القرن السادس عشر اعتبر ان المسرحيات «طقس شيطاني»، وهذا ما عاناه الصحافيون أنفسهم في القرن السابع عشر حيث ان الصحافيّ لم ينل الاحترام باعتباره من أصحاب الثرثرة، والقذف، والنميمة، ولعل هذا ما دفع إلى ولادة تعبير احتقاريّ ألصق بالصحف حيث يقال عن المكتوب فيها انه «حكي جرائد» أي حكي لم يرق بعد إلى مصافّ الكتب. يربط الكاتبان بين الصورة اليوم من حيث هي وسيط طاغٍ والنحت والرسم قديما حيث لم تكن الناحية الجمالية وراء النحت فقط وإنما الدعاية والإعلان وتحميل رسائل دينية أو سياسية، أي ان دراسة الفن القديم أو حصره في الحيّز الجمالي فقط يفقد المتتبع للأحداث ولحياة الإنسان الاجتماعية قدرا كبيرا من الموضوعية، من ناحية، كما يحرمه، من ناحية أخرى، قراءة متكاملة ومتنامية لمفهوم الصورة المنحوتة والمرسومة ووظيفتها. ومن هنا يدخل المؤلفان إلى عالم الأيقونة والصراعات الكثيرة التي دارت حولها بين التيارات الدينية في أوروبا. فان الأيقونات لم تكن تحيل إلى مسألة القداسة فقط بل انها كانت أشبه بـ«ريبورتاجات مصورّة»، بالمفهوم الحديث، لحياة القديسين. ولم تكن الأيقونة وسيلة لنقل المعلومة وحسب وإنما كانت أيضا وسيلة للإقناع أي تعتمد كلّ الوسائل والمؤثرات البلاغية والحجاجيّة، وهذا ما نشهده اليوم في عالم الصورة، فهي ليست وسيلة لنقل الخبر أو تصوير الحدث دائما بعين أو عدسة بريئة، وإنما لتشكيل الخبر أيضا، بمعنى سكبه في شكل معيّن، من خلال اللجوء إلى كل الخدع التصويرية، للتأثير في الرأي العام وفق إيديولوجيا خفية أو معلنة. من هنا، فان صاحبَي الكتاب يقولان إن المصوّر كان يقدم للدين ما يقدمه الخطيب من خلال بلاغة الصورة. كما يتطرق إلى وظيفة الصور المرسومة في كتب الرحلات، وغيرها، يوم ان لم تكن بعد الكاميرا قد ظهرت، أي ان اقتران الصورة بالكلمة ليس ابن الكاميرا، ويشيران إلى الدور التعليمي للصور، في وقت كانت القراءة والكتابة من الأمور النادرة في العالم الغربي. مما دفع بالصورة إلى ان تقوم بتأدية الوظيفة نفسها التي تقوم بها اليوم مع فوارق كميّة، حيث تسهم الصورة الجامدة والمتحركة معا في توصيل المعرفة إلى الأميين.

فالصور لم تكن فقط لحظات تاريخية تنقل وإنما أيضا مواقف سياسية وتمجيدية أو تنديدية كما يظهر ذلك في المسلة التي تصوّر الغزو النورماندي وهي بطول 232 قدما والتي يرى المؤلفان انها قصة بصرية تشبه الأفلام في أساليبها ومؤثراتها.وهذا ما أشار إليه الروائي والشاعر الفرنسي فيكتور هيجو في روايته «أحدب نوتردام» حين تكلم عن المنافسة بين الصورة والكلمة، حيث يقول إن كل واحدة تحاول أن تقضي على الأخرى، إلا أن الزمن أظهر ان الصورة أيا كان سحرها لا يمكن لها ان تستغني كليا عن دعم الكلمة لها. وان ما كان يعتقد انه تنافس انتهى إلى مصالحة ذكيّة بين الكلمة والصورة.

ويتطرق الكاتبان إلى كل التساؤلات التي لا تزال مثار درس، منها هل التقنية وثورة المعلومات تؤدي إلى ولادة الدكتاتوريات أم إلى إنجاب الديمقراطية؟، يجيب الكاتبان بالقول ان الإذاعة مثلا لم تكن إذاعة تشرشل فقط بل كانت أيضا إذاعة هتلر بمعنى ان كل الوسائط ليست ذات اتجاه واحد، فالتلفزيون مثلا لا يمكن ان يقال انه صانع دكتاتوريات أو العكس. ومن الأسئلة المطروحة بحدة اليوم هو هل الشبكة العنكبوتية تولد الوحدة أم تولد العزلة والفرقة؟، أي هل هذه الوسائط الحديثة تجعل العالم على ما يقول مارشال مكلوهان «قرية كونية»؟وكل وسيط يترك أثرا في اللغة وعليه في التفكير، فتعبير «العالم كتاب» هو من وليد مرحلة ما قبل الهاتف والكومبيوتر، ولكن العالم اليوم لم يعد كتابا ولا مكتبة وإنما شاشة ضوئية أو رقمية. وتوقف الكتاب عند تعابير كثيرة مبثوثة في طواياه تخصّ عالم الاتصال سواء الجغرافي أو الفكري، منها ان كلمة تاكسي مشتقة من اسم عائلة كانت تسيطر على النظام البريدي في أوروبا في القرن السادس عشر. ولا ريب ان وسائل الاتصال ذات سطوة وهذا ما أدركه أتاتورك، كما يقول المؤلفان، حين فصل الأمة التركية عن الحرف العربي وأعاد سبك أحرف جديدة مستولدة من الأبجدية اللاتينية، وهذا الأمر أدّى الى قطع الجيل الراهن عن ذاكرته العثمانية لتأسيس ذاكرة جديدة علمانية. وما كان لأتاتورك ان يقوم بهذا الأمر لو لم يجد في الرمز المكتوب قدرة لا يستهان بها. وهذا ما حدا البعض إلى اعتبار ان الإنسان كائن رموزي أو علاماتي.ويشير المؤلفان إلى المعاناة التي عاشتها الطباعة في العالم الإسلامي في زمن السلاطين العثمانيين، وللكاتبَين موقف على المؤرخين ان يقولوا فيه الكلمة الفصل حيث يقولان ان الطباعة التي كانت موجودة في الصين حتى قبل ولادة غوتنبرغ لم تصل إلى العالم الغربي، وبقيت حبيسة أسوارها، نتيجة الموقف السلبي الذي وقفه المسلمون من الطباعة. والأتراك في بداية عصر الطباعة حرّموا طباعة القرآن، بسبب احتمال تسهيله لنشوء نمط من الهرطقة، فأصدر السلطان سليم الأول (1512 ـ 1520) مرسوما يقضي بتنفيذ عقوبة الإعدام فيمن يمارس أي شكل من أشكال الطباعة، إلا ان السلطان مراد الثالث (حكم 1574 ـ 1595) سمح بتداول الكتب المطبوعة غير الدينية المكتوبة بأحرف عربية. ويقوم هنري أولدنبرغ بالربط بين غياب الطباعة والاستبداد، وذلك لان الحاكم العثماني كان يعتقد، كما يقول، ان الطباعة هي التي كانت وراء انقسام المسيحيين. ويقول الكاتبان أن منع الطباعة في تركيا هو الذي أدّى إلى تأخير ولادة الصحف حيث ان أول صحيفة رسمية طبعت في تركيا كانت في عام1831.

إن الكاتبين يقومان بمسح شيّق وعميق لكل أدوات الاتصال، من بريد وتلغراف وهاتف وإذاعة وتلفزيون وسينما وكومبيوتر وإنترنت، وربط ذلك كله بالمواصلات الأرضية والبحرية والفضائية، وكيف أن التأثير بينها متبادل، والتفاعل بين مختلف هذه التقنيات هو الذي أدّى إلى تخصيب أدوات التواصل الحديثة،