جلجامش يتكلم العربية ويرقص الكاتاكالي

كاترين شاوب تمشي على الحبل مع ممثلين سوريين

TT

لطالما عمل «مسرح الشمس» على تحويل الممثل إلى باحث، ونبش في إمكانياته، وحرر جسده، وأغناه بأدوات جديدة تساعده على تمثل الشخصية والنص، لخلق علاقة عضوية وثيقة بين الشكل والمضمون، وبين الممثلين مع بعضهم ومع المكان...

هذه المرة «مسرح الشمس» في سورية من خلال الممثلة ومصممة الرقص الفرنسية كاترين شاوب، التي دعيت من قبل «المركز الثقافي الفرنسي» في دمشق، كمرحلة أخيرة من برنامج التعاون الذي تشرف عليه آريان منوشكين بدعم من المفوضية الأوروبية في سورية. وهو برنامج بني على محترفين أقيما في مسرح الكارتوشري في فرنسا، أتاح لثلاثة عشر ممثلاً وممثلة سوريين من الشباب أن يندمجوا في الحياة اليومية لفرقة آريان منوشكين، ويشاركوا في محترفات ارتجال، ويألفوا أشكالا مسرحية تقليدية في عملهم حول القناع أو الرقص الهندي الكاتاكالي.

اقترحت المخرجة كاترين شاوب دعوة الجمهور لحضور عمل لهؤلاء باللغة العربية حول ملحمة جلجامش، ملك أوروك الشهير الذي ذهب للبحث عن الخلود، معتمدة الترجمة العربية لفراس السواح، آخذة الحكاية بخطوطها العريضة، ضمن إطار ورشة تنقيب أثرية ومسرحية في آن واحد، حيث يكون الممثل هو المغني والحكواتي والموسيقي والراقص...

والأدوات المستخدمة تدل على أننا أمام ورشة عمل بالفعل حيث هناك سلال بلاستيكية، فوانيس، جرار ماء.. وقماشة مفروشة على الأرض توحي بالصحراء كمكان للتنقيب، يستخرج منها الممثلون الحلي والاكسسوارات التي يرتدونها كأداة للدخول في الشخصية مثل قبعة عشتار، أو عقد نتسون، أو وشاح جلجامش.. أما الفضاء الآخر فهو فضاء اللعب، باعتبارهم مجرد ورشة مسرحية تستعرض تمارينها امامنا، من خلال الدفاتر التي يقرأون منها نص، المرآة، الستارة، ملابسهم وتعليقاتهم العامية، وسخريتهم، مثل مشهد السخرية من عشتار وفضح علاقاتها بطريقة أقرب لما هو شعبي «الردح».

والبروفة مشهد متكرر يكسر حالة الملحمة وجديتها المعتادة، والبعد الطقسي للعمل، كونها الإطار الحاضن، مما يوسع هامش الارتجال. من جانب آخر يطغى طابع احتفالي، طقسي من خلال النص الشعري المكتوب أولا، ومن ثم طريقة أدائه وترتيله واستخدام الآلات الإيقاعية...

وهذا ينسجم مع الشكل الذي اعتمد لتقديم الملحمة وهو رقص الكاتاكالي الذي يجمع بين أنواع الرقص الديني المتعددة والرقص الشعبي. ويأخذ بعده الطقسي لاعتماده على شخصيات ملحمية وأسطورية مثل جلجامش، ولنظام حركي في العيون وعضلات الوجه والأيدي، وهي رموز يعرفها المتفرج، يفككها، ويتفاعل معها، بحيث تتزامن أو تتعاقب مع الموسيقى والغناء، وتكون بداية لما تكمله الحركة، لكن في هذا العرض ترافق الخطاب المسموع مع المرئي، إذ ليس للجمهور دراية بدلالات الرموز، مما جعلها مجانية إلى حد ما، تنتمي فقط إلى عناصر الكاتاكالي. وربما هي أكثر فائدة للممثل ـ كون العرض ورشة تخص الممثلين أولا ـ كأداة يستخلص من خلالها ما هو حقيقي وموجود في النص القديم.

في العمل جملة من الثنائيات بين ماهو نص شعري وآخر مرتجل، ماض وحاضر، صوت وصداه.. بالتالي جمع بين التمثل والتغريب.

طلعت علينا المخرجة في أول العرض كمشارك ومراقب وملقن للحركة أحيانا، وتوجهت إلى الجمهور، لتقول بأن ما سيقدم هو اكتشاف وارتجال، وليس عرضا منتهيا، ثم تم تقسيم فضاء الحركة إلى حيزين عن طريق دائرة تفصل حيز الموسيقيين بصحبة الآلات الإيقاعية، والمغنين الذين يقومون بسرد النص، عن حيز الراقصين الإيمائيين، هذا لا ينفي تداخل الحيزين ضمن منطق اللعب السائد، الذي تمت المبالغة فيه أحيانا حين اشترك الجميع في قرع الطبول والرقص الشبيه «بالدبكة»، واللافت هو ضحكات المخرجة واستمتاعها بارتجالات الممثلين مما يؤكد مشاركتهم في صناعة هذا الشكل من العرض الذي قدم دون أقنعة أو لباس مسرحي أو إضاءة أو ديكور.. بل اعتمد الاكسسوار للدخول في الشخصية من حيث الشكل الخارجي، والماكياج برموزه، والألوان ودلالاتها في الكاتاكالي، مثل الوشاح الأحمر دليل حب الذات مثلا، أو الستارة الزرقاء المتموجة كالبحر وكأن جلجامش وأنكيدو في رحلتهما الخطرة للقضاء على خمبابا، يمشيان على الماء غير واثقين من خطاهما.

ترى كاترين شاوب أن ثلاثة أسابيع من العمل غير كافية لإخراج عرض مسرحي مثل جلجامش أو تعلم رقص الكاتاكالي، بل لتقديم ما وصلوا إليه حول العمل على الممثل وإخراج إمكانياته وطاقاته والاستفادة منها، أما حقل التنقيب فهو استعارة في عملية البحث نحو الداخل والعمق الإنساني المتشابه بين الإنسان القديم والمعاصر. لذا كان الخيار نسخة شعرية باعتبار الشعر يتوجه إلى الجميع على اختلافهم، كذلك الشكل الشعري الذي استخرج طاقات ممثلين يرغبون في امتصاص كل ما هو جديد، لإغناء تجربتهم مثل أمل عمران، جمال شقير، حلا عمران، كامل نجمة، مازن عباس، مصطفى الخاني، نعمى عمران، ناندا محمد. مما جعل المتلقي يشهد حرية أكبر في تعبير الممثل، وسلاسة في تواصله مع النص، لأنه مشارك في جميع عناصره وجزئياته، بالتالي زيادة قدرته على التواصل مع الجمهور الذي استمتع بأداء اعتمد الاسترخاء المضبوط. حول هذا تضيف الممثلة أمل عمران: «مايلزمنا وتعلمناه في هذه المحترفات، هو آلية العمل الجماعي، حيث يتحول الممثل إلى باحث، ويعمل الجميع للوصول إلى شكل جديد، تلك الذهنية تدعو إلى الاسترخاء في العلاقة مع الآخر، وفي العمل، وهذا ما نفتقده في مسرحنا». تجربة كانت بمثابة المشي على الحبل دون وجود شبكة في الأسفل، هكذا شبهتها كاترين شاوب وأضافت «جوهر الموضوع هو تقديم مسرح يمزج الشكل القديم والحديث وما نتعلمه مثل الكاتاكالي. هذه الأشكال التقليدية تعلمنا أن للنصوص المسرحية إيقاعا وصوتا وشكلا جسديا. حركات الممثل الجسدية، سكونه وثباته ورقصه وسيره هي التعبير المرئي لحركات روحه غير المرئية. يصبح الجسد ذاته شعرا» وتنهي قولها بتساؤل سعت في عرضها للإجابة عليه «كيف يمكن العيش ومشاركة أهواء الشخصيات عبرهذا الجسد ـ الشعر، وجعله يتحرك بواسطة النص ذاته وانفعاله، وإعطائه جلده الخاص، وقيمة كونية تتخطى الكلمات؟».