مخاض ديمقراطي رائد انتهى بإجهاض مؤلم

الحياة البرلمانية في العراق (1939 ـ 1945)

TT

حتى يوم 14 يوليو (تموز) 1958 كانت الحياة البرلمانية في العراق تعد في مقدمة التجارب البرلمانية في المنطقة، حيث استطاعت أن تسهم بفعالية مشهودة في بناء الدولة العراقية الفتية وتثبيت أركانها العصرية بعد ثلاث سنوات من اعلان الحكم الوطني في العراق وذلك بافتتاح المجلس التأسيسي من قبل الملك فيصل الأول في يوم 27 مارس (اذار) 1924 .

هذا المجلس الذي وضع الأسس الأولى لقيام أول حياة برلمانية في العراق من خلال سن القانون العراقي (الدستور) الذي في ضوء تطبيقه افتتح أول مجلس نيابي منتخب في 16 تموز 1925.

وبالرغم من كثرة الدراسات والأبحاث، وخاصة الأكاديمية التي تناولت الحياة البرلمانية في العراق، إلا أن أيا منها لم تستطع تغطية كافة تفصيلاتها، لذلك أخذت هذه الدراسات مراحل بعينها لتسليط الضوء عليها. وضمن هذا السياق يأتي صدور كتاب (الحياة البرلمانية في العراق ..1939 ـ 1945) عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد تأليف الدكتور عبد الزهرة الجوراني.

ينطوي الكتاب على أهمية خاصة لسببين رئيسيين، الأول: ان معظم الدراسات السابقة تناولت الفترة من تشكيل المجلس التأسيسي وحتى عام 1939، ومن النادر أن تناولت الفترة اللاحقة، والسبب الثاني أن الحقبة التي تناولها الكتاب شهدت صراعات مريرة وقاسية على المستوى المحلي والدولي، فعلى المستوى المحلي شهدت مقتل الملك غازي 1939، وحركة 1941 وتعقد العلاقات العراقية البريطانية، وتدخل الجيش في شؤون الحكومة عقب انقلاب بكر صدقي، وعلى المستوى الدولي اعلان الحرب العالمية الثانية وانعكاساتها على الوضع الداخلي في العراق سياسيا واقتصاديا..

يقع الكتاب في 270 صفحة من القطع الكبير، ويضم خمسة فصول إضافة الى ملاحق وثائقية.. تناول الفصل الأول (الأوضاع الداخلية في العراق في المرحلة 1939 ـ 1940 وموقف البرلمان منها)، فقد ضج العراقيون من تدخلات الحكومة بالحياة البرلمانية مما جعلهم يبتعدون عنها، وجرت انتخابات عام 1937 في جو من الريبة والشك. كما عمل نوري السعيد على تقريب كتلة الضباط لينتقم من حكومة جميل المدفعي، مما دفع المدفعي الى تقديم استقالته الى الملك الذي قبلها وكلف نوري السعيد بتشكيل وزارته الثالثة في1938/12/20. وقد لعب البرلمان دورا حيويا في كشف مخالفات حكومة المدفعي لأحكام القانون الأساس ووضعها بعض العناصر الوطنية تحت المراقبة. وهذا ما اثار المخاوف من ظهور تكتلات داخل البرلمان تعمل باتجاه مراقبة الحكومة. وتفاقم الأمر بعد اغتيال الملك غازي في 1939/4/4 واتهام الرأي العام بريطانيا بتدبير الاغتيال. لكن مع ذلك لم يتطرق البرلمان في اجتماعاته الى أسباب مقتل الملك. وبمساعدة وتدبير من نوري السعيد تم تنصيب عبد الاله وصيا على عرش العراق. ولم يكن للوصي أي دور في إدارة البلاد في بداية تسلمه العرش وذلك لحداثة عهده وقلة خبرته السياسية والإدارية، فعهد بكل هذه الأمور الى نوري السعيد الذي راح يختار العناصر الموالية له في الانتخابات البرلمانية وفي الحكومة، وظل معظم أعضاء البرلمان على مدى أربع سنوات من مؤيدي نوري السعيد والموالين للسياسة البريطانية.

أما مواقف البرلمان من الحرب العالمية الثانية فقد تشعبت، بعضها مؤيد للحكومة والبعض الآخر معارض لها، لكن الاتجاه العام كان يحدد موقفه من بريطانيا على ضوء موقفها من القضية الفلسطينية. تطورات الحرب الثانية المتمثلة بخسارة فرنسا ودخول ايطاليا واحتمال خسارة بريطانيا، أضعفت موقف نوري السعيد وجعلته يتخلى عن الوزارة ويعهد بها الى رشيد عالي الكيلاني، خاصة بعد رفض البرلمان قطع العلاقات مع ايطاليا، فعهد بأمرها الى حكومة الكيلاني الثالثة، لكن هذه الحكومة اتخذت قرارا بالتريث، مما أغضب بريطانيا وجعلها تستمر بالضغط. وبالمقابل حاولت الوزارة إعادة الانتخابات لكي تضمن (صعود اعضاء أحرار يمثلون الأمة). وعندما وصل الى سمع الحكومة البريطانية أن الحكومة العراقية ستحقق تقاربا مع المانيا كثفت بريطانيا ضغوطها السياسية والعسكرية والاقتصادية متمثلة بالامتناع عن شراء التمر العراقي مما أضطر رشيد عالي الكيلاني تقديم استقالته.

وتناول الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان ( تفاقم الأزمات الداخلية من 1941 ـ 1942وموقف البرلمان منها) تفاعلات هذه التطورات أدت الى استقالة وزارة الكيلاني وتشكيل وزارة جديدة من قبل طه الهاشمي بتكليف من الوصي، وهذا خفف الأمور ظاهريا حيث قوبلت الوزارة بالترحاب من البرلمان واستغل بعض النواب مناسبة القاء خطاب حكومة الهاشمي فهاجموا وزارة الكيلاني، مما حدا بأنصار الأخير بالرد. وقد وصل الأمر أن طالب النائب يونس السبعاوي بحل مجلس النواب فقوبل طلبه بالضجيج والشتائم.. في هذا الوقت اجتمع بعض ضباط الجيش وقرروا الضغط على حكومة الهاشمي لتقديم استقالتها بالإكراه، كما قرروا تأليف مجلس للدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني وإقصاء الوصي الذي كان قد هرب الى البصرة وتنصيب وصي جديد هو الشريف شرف. وقد حاول الكيلاني التخلص من مجلس النواب لأن أغلب أعضائه من الموالين لنوري السعيد لكنه لم يستطع، ولم يفعل النواب الموالون للوصي أي شيء بعد أن وجدوا ان العشائر الموالية للوصي لم تتحرك أو تفعل شيئا لنصرته. وعلى اثر ذلك تطورت الأمور في 2/مايو (ايار) عندما بدأت الطائرات البريطانية عملياتها الحربية ضد القوات العراقية، كما وزعت منشورات أشارت فيها الى أن حكومة الكيلاني تشكل خطرا على البلاد. وأنتهت تلك الأحداث بما سمي (الحرب العراقية ـ البريطانية) أو حركة ماي التي انتهت بالفشل في 31 مايو وعودة الوصي الى العرش وتشكيل حكومة جميل المدفعي الخامسة.

الأحداث والأزمات السياسية والاقتصادية والأجتماعية في العراق من عام 1943 الى عام 1945 وموقف البرلمان منها كانت عنوان الفصل الثالث من الكتاب. وقد انطلق هذا الفصل من فهم موقف البرلمان من سياسة الشدة التي أتبعها نوري السعيد عقب تشكيل وزارته السابعة 1942 وعدم التساهل مع الوزراء والسياسيين والنواب وزجهم بالسجون. وهذا ما اتاح له الفرصة لتحقيق الكثير من افكاره بشأن السياسة الخارجية، واهمها انضمام العراق الى ميثاق الأطلسي بعد مناقشة طويلة في البرلمان وإعلان العراق رسميا الحرب على دول المحور. وظن بعض البرلمانيين اثناء المناقشة والتصويت أن الانضمام الى الميثاق سيمكن العراق من المطالبة بكامل حقوقه من الحلفاء، ومع تطور الأوضاع السياسية في الحرب تفاقمت الأزمة الاقتصادية في البلاد وازداد القحط. وقد اتخذت حكومة نوري السعيد مجموعة أجراءات قوبلت بالانتقاد من قبل البرلمانيين.

وتناول المؤلف في هذا الفصل قضية مهمة أخرى هي تعديل القانون الأساس (الدستور) حيث نجح البرلمانيون في إدخال تعديل على القانون يضمن استقلالية البرلمان عن الحكومة وزيادة صلاحيات الملك، وعد هذا التعديل انتصارا للبرلمانيين. هذه التعديلات هي التي أتاحت للبرلمانيين توجيه الضغوط على الحكومة وإجبارها على الاستقالة في 16 أبريل (نيسان) 1944 وتكليف حمدي الباجه جي بتشكيل وزارة جديدة، ولم تسلم هذه الوزارة من الانتقادات حيث طالب النواب بإطلاق الحريات، واجازة الأحزاب ورفع الرقابة عن الصحف وكانت هذه آخر وزارة عراقية تشكل خلال الحرب العالمية الثانية.

وتناول الفصل الرابع (البرلمان والقضايا العربية)، ركز المؤلف فيه على قضيتين رئيسيتين هما القضية الفلسطينية وقضية الاعتداء الفرنسي على لبنان وسورية.. فقد أولى البرلمان العراقي قضية فلسطين اهتماما خاصا بسبب فقدان الأمل الذي كان يتوخاه العرب من بريطانيا، ففي جلسة مجلس الأمة المشتركة المنعقدة في 1939/12/6 أوضح عبد الاله في خطاب العرش مساعي الوفد العراقي في لندن التي أسفرت عن نشر الكتاب الأبيض، الذي يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وقد برز دور النواب والأعيان اثناء القاء هذا الخطاب ومناقشة القضية الفلسطينية حيث نعتوا هذا الخطاب بمختلف النعوت وطالبوا بحل القضية الفلسطينية حلا مشرفا. فقد قال النائب عبد المهدي: (ان قضية فلسطين لم تصبح الشغل الشاغل للأقطار العربية فحسب بل تهم كل بيت عربي).

أما فيما يخص الاعتداء الفرنسي على سورية ولبنان فقد رفع البرلمان أحتجاجا شديد اللهجة (ضد الاعتداء الذي قامت به لجنة تحرير الوطن الفرنسية على الجمهورية اللبنانية وتصرفاتها المستنكرة باعتقال رئيس الجمهورية وأعضاء حكومته) وقد وصل الأمر بالنائب محمود رامز أن اقترح أعلان الحرب على فرنسا.

أما الفصل الخامس والأخير فقد خصصه المؤلف لـ (البرلمان والمنظمات العربية والدولية) تناول فيه موقف البرلمان العراقي من ميثاق وتأسيس الجامعة العربية وبعد أن استعرض دور العراق في وضع الميثاق، تناول مناقشات البرلمان لميثاق الجامعة العربية وترحيبه به حيث ربط بين ميثاق الجامعة والقضية الفلسطينية. وقد صادق مجلس الأعيان على ميثاق الجامعة العربية بالإجماع في ختام جلسته بتاريخ 29 آذار 1945.

كما استعرض المؤلف موقف البرلمان العراقي من ميثاق الأمم المتحدة، ففي 14 اكتوبر (تشرين الأول) 1945 صدرت ارادة ملكية بدعوة مجلس الأمة للأنعقاد في 20 تشرين الأول 1945 للبت في ميثاق الأمم المتحدة مع النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وقد شكلت لجنة من 16 عضوا لمناقشة الميثاق وتركزت المناقشات على صياغة حقوق العراق والدول العربية والالتزام بالعهود والمواثيق، كما ندد بعض النواب بالدول العظمى لأنها لم تحقق للعرب وعودها. وقد وجه النائب محمد رضا الشبيبي انتقادات الى الحكومة بهذا الشأن لأنها (لم تحفظ الحقوق الديقراطية للشعب وتدعو الى الديقراطية في العالم). وبالرغم من الانتقادات الشديدة التي وجهت للميثاق فقد أعطى الأعيان الموافقة للملك لتصديق ميثاق الأمم المتحدة..

صدور الكتاب في هذا الوقت الذي يشهد فيه العراق عودة الحياة البرلمانية وكتابة الدستور أعطاه أهمية خاصة للإضاءة على تاريخ العراق السياسي الحديث وتطوراته اللاحقة.