فيلسوف عولمة الفكر في مواجهة التصادم

ندوة دولية حول ابن عربي

TT

بدأت يوم الأربعاء الماضي في دمشق، الندوة الدولية حول التصوف، بالتعاون بين وزارة الثقافة السورية والمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، ومعهد سرفانتس الإسباني، تحت عنوان: «الرمزية والتأويل في فكر محيي الدين بن عربي»، واستمرت ثلاثة أيام. شارك في الندوة مفكرون عرب وأجانب، يهتمون بالتصوف وبسيرة الشيخ الأكبر وفلسفته، مجسدين بذلك أخوة الفكر الإنساني التي نادى بها الشيخ محيي الدين بن عربي وجعلها شرطا من شروط المحبة الإلهية.

مفكرون من فرنسا، إسبانيا، بريطانيا، الولايات المتحدة، تركيا، إيطاليا، كندا. ومن الدول العربية: سوريا، مصر، لبنان، الأردن المغرب، الجزائر، كانوا هناك… في الافتتاح تحدث مدير المعهد الفرنسي عن دلالة قيام هذه الجهات الثلاث، بالاحتفالية حول ابن عربي الذي كانت دعوته دائماً إلى توحيد الإنسانية على دين المحبة. بدأت الجلسة الأولى ببحث عنوانه: تأويل الحروف عند ابن عربي، قدمه المفكر المصري حسن حنفي، أكد فيه على الدلالة التصويرية للحروف، بين حرف مستقيم يمثل الذات الإلهية، وحرف منحنٍ يشير إلى العبودية. ثم تحدثت الباحثة في التصوف الدكتورة سعاد الحكيم من الجامعة الأمريكية في بيروت، عن كتاب العبادلة لابن عربي الذي تقوم الآن بتحقيقه. والعبادلة، جمع لاسم عبد الله، وهي أسماء لمقامات وليست لأشخاص واقعيين. وأحصت الدكتورة سعاد عدد العبادلة فكانت 117. وفي بحثها عن دلالة هذا الرقم، وجدت أن الحكيم الترمذي يقول: إن لله 117 خلقاً إلهياً. وتناولت هذا الكتاب بثلاث قراءات تأويلية: قراءة تعريفية، تأويل أول، تأويل ثانٍ. بعد هاتين المحاضرتين جرت جلسة مناقشة، طرح من خلالها مسألة كيفية اقتصار ابن عربي على تأويل الحروف العربية دون غيرها، مع ما يمتاز به فكره من عالمية!. وفي مداخلة للدكتور نذير العظمة، أكد أن ابن عربي يمتلك جدلية مثل جدلية هيجل وماركس، ولا يمكن فهمه إلا بفهم جدليته، وأن الدخول في الجزئيات عند ابن عربي تؤدي إلى الضياع ولا تؤدي إلى الفهم.

الجلسة الثانية من الندوة كانت برئاسة الدكتور أحمد برقاوي، أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق، وفيها تحدث الباحث الفرنسي دوني غريل عن: التأويل والاعتبار عند ابن برجان وابن عربي. كما ألقى الدكتور عصام قصبجي أستاذ النقد بجامعة حلب بحثاً بعنوان: الحقيقة والمجاز في رؤى ابن عربي، أشار فيها إلى لبس لازم المجاز عند البلاغيين وغيرهم، يجعله نقيضاً للحقيقة، كما أن الكذب نقيض الصدق. وفي الجلسة المسائية لليوم الأول، ترأسها الشيخ أحمد حسون مفتي مدينة حلب. كان الحضور يصغي إلى الدكتور نصر حامد أبو زيد الباحث المعروف في الفكر الإسلامي، وبحثه بعنوان: التأويل بين ابن رشد وابن عربي. وأشار إلى أنه يهدف من هذا الربط بين الاثنين، أن يقيم علاقة بين ابن عربي وابن رشد، منطلقاً من سؤاله المعاصر حول الإسلام والدين عموماً، وحول العلم والمعرفة. عارضاً لدلالات التأويل عند المتصوفة، والتي تقوم على رفع التناقض المتوهم في النص. فابن عربي يقول بالتأويل، بمعنى معرفة مآل الشيء وأصله، بينما نجد التأويل عند ابن رشد يؤكد أن لا تناقض في النص، بل في الفكر البشري وفي آلية التفكير.

وحسب أبو زيد، يتفق كل من ابن رشد وابن عربي في أن التأويل لا يعني تجاوز الظاهر بل البدء به ثم العبور إلى الجوهر. ذاهباً إلى أن ثمة قصورا عند من يرى الظاهر وحده أو يرى الباطن وحده. والأكمل هو إدراك الوجود في غموضه، أي في رؤية ظاهره وباطنه معاً، أي في رؤية الحق والخلق معاً. ويرى الدكتور أبو زيد أيضاً، أن ابن رشد وابن عربي كانا مناصرين لفهم العامة أمام فهم المتكلمين، ولكنهما كانا متفقين أيضاً في حجب المعرفة عن العامة. وخلص إلى القول: إذا كان أسلافنا قد استعانوا بتراث اليونان، فإننا نستحق ما نستحق إن لم نسر على نهجهم. وكان نصر حامد أبو زيد قد دعا إلى ضرورة النظر إلى ابن عربي في إطار التاريخ، وقال: لا نريد أن نصنع من ابن عربي أيقونة، لأن هذا يمثل خطراً على حاضرنا. ومن بين المتحدثين في اليوم الثاني الباحث التركي محمود إيرول قليج، طارحاً موضوع السلطة والملك عند المتصوفة، منطلقاً من سيرة المتصوف التركي إسماعيل حقي. وعن رمزية الجسد في تأويلات الشيخ محيي الدين، حاضرت ليلى خليفة من الأردن. والباحث عمار قدور من سوريا، عن النص القرآني في الفتوحات المكية. والجلسة الثالثة لليوم الثاني، ترأسها الدكتور عبد الله أبو هيف، من جامعة تشرين. وتحدث فيها: سعدان بن بابا (فرنسا) عن المشاهد والرموز في موشحات ابن عربي. وستيفان هرتنشتين (بريطانيا) عن: خرقة الخضر / الرمز والأسطورة والمعنى. وشيرين دقوري (سوريا) عن الأنوثة في تجربة ابن عربي الشهودية. أما في اليوم الثالث والأخير، بدأت الجلسات في التاسعة صباحاً وانتهت في العاشرة ليلاً. ترأس الجلسة الأولى: انتونيو خيل دي كاراسكو، مدير معهد سرفانتس الإسباني. شارك في هذه الجلسة: السيدة جين كلارك (بريطانيا) عن كلية الدلالة في فصوص الحكم. وجمال العمراني (فرنسا) عن الأمير عبد القادر الجزائري قارئاً ابن عربي. وبكري علاء الدين (سوريا) مداخلته بعنوان: دين الحب عند ابن عربي، منطلقاً من الأبيات الأربعة الشهيرة لابن عربي، والتي يقول فيها:

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه، فالحب ديني وإيماني

وقدم علاء الدين تأويل ابن عربي وتأويلات عديدة لهذه الأبيات، وأن تعبير (دين الحب) الذي أعطاه ابن عربي بعداً جديداً في منظومته الفلسفية، كان قد استخدم قبله، في القرنين الرابع والخامس في شعر الغزل، وجاء بصيغة: (دين الهوى ) أو (دين الصبابة) وبما أن ابن عربي يتحدث في هذه الأبيات عن أن قلبه صار مجمع أديان عديدة، فإنه وبصفته وارثاً للحقيقة المحمدية، ونازعا دائماً إلى الكمال، وبلوغ مرتبة الإنسان الكامل، عليه أن يؤمن بكل الأديان.

ورغم التكرار وتفاوت مستوى المحاضرات، إذ سيطر على بعضها الإنشائية والتهويمات الميتافزيقية، نجحت هذه الندوة بالمجمل في التأكيد على الأخوة الإنسانية والروح العالمية من خلال قراءات معاصرة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، فيلسوف وحدة الوجود، وشاعر الحب الإنساني والحب المطلق، وهو العاشق في كلا الحالتين. كان الشيخ محيي الدين أندلسي النشأة، وهو من أحفاد حاتم الطائي، واسمه: أبو بكر محمد بن علي الطائي. خرج من الأندلس إلى مراكش وصادف هناك وفاة ابن رشد، فمشى في جنازته التي نقلت إلى مسقط رأسه في قرطبة. ونزل في بجاية، وفيها رأى في منامه أنه تزوج الحروف والنجوم والكواكب جميعها! وبما أنه محب للسياحة والسفر والمعرفة توجه شرقاً، فزار مصر والحجاز والعراق، ويذكر هادي العلوي في كتابه: مدارات صوفية، أنه اجتمع بالشيخ عمر السهروردي اجتماع صمت لم يتكلما فيه. ولما افترقا وسئل عنه السهروردي قال: بحر الحقائق. وقال هو عن السهروردي: مملوء سنة من الرأس حتى القدمين. وذهب إلى الموصل ثم إلى حلب وإلى الأاحناضول، فتزوج هناك من لفوت، فربى ولدها على التصوف حتى استحكم فيه وعرف بالقونوي نسبة إلى قونية التي حل فيها مربيه. وعاد الشيخ الأكبر إلى حلب واجتمع بحاكمها الظاهر غازي بن صلاح الدين، وكان قد قتل الفيلسوف السهروردي بأمر من والده، خضوعاً لفتوى من فقهاء حلب. ألقى الشيخ في دمشق عصا الترحال ولم يغادرها حتى وفاته عام 638 وضريحه فيها مسجد ومزار. ويذكر أنه خرج من الأندلس، وكانت تعم فيها حروب الاستلحاق، وجاء إلى المشرق الذي كان يعاني من أجواء الحروب الصليبية.

أجمع المشاركون على أن هذه الندوة العالمية عن التصوف وعن أحد أكبر أقطاب التصوف المعرفي الشيخ محيي الدين، الذي قدم للعالم نظريات عن وحدة الوجود، ووحدة الأديان، وعن النبوة والولاية، وفي الشريعة والعقائد، ومعارف متنوعة، يستحق هذا الفيلسوف الكبير أن يكون نموذجاً لعولمة الفكر، في مواجهة عولمة التصادم والصراع. وإن نزعته التفاؤلية النابعة من حبه للخير تصلح لأن تكون غذاء روحياً للمتطلعين نحو آفاق إنسانية جديدة. ولعله من المفيد أن نذكر أنه شارك في هذه الندوة أكثر من ثلاثين باحثاً وأستاذاً أكاديميا، وقدم فيها ثمانية وعشرون بحثاً، وربما أراد لها منظموها أن تكون حشداً يحمل دلالات تتعلق بالوضع الراهن في المنطقة والعالم.