أمبرتو إيكو والفرق بين الفأرة و الجرذ

مصانع شكسبير لأخطاء الترجمة

TT

يلتفت المفكر والروائي والأكاديمي اللامع أمبيرتو ايكو في كتابه «فأرة أم جرذ» الى أشكالات الترجمة وما تنطوي عليه من تساؤلات أساسية عن اللغة والثقافة والاختلاف. وايكو، كما يقول في مقدمته لا يسعى الى معالجة الموضوع باعتباره منظرا في حقل الترجمة، ولا باعتباره أستاذا، رائدا بلا شك، في السيميوطيقيا بل باعتباره محررا ومترجما ومؤلفا تُرجمت أعماله الى لغات عديدة. وبغض النظر عن حقيقة أن فلاسفة ولغويين قالوا بعدم وجود قواعد وقياسات يمكن اعتمادها لترجمة بصفتها أفضل من ترجمة أخرى، يقول ايكو: «هناك موازين أخرى للقياس تحددها الممارسة اليومية في دور النشر». هذا التعامل اليومي الواسع مع الترجمة يصوغ في النهاية موضوع الكتاب الذي يعد بلا شك من الأمثلة الجلية على براعة المؤلف كمفكر ولغوي. وكعادته يأخذ أمبرتو ايكو بموضوعه الى منعطفات لا تقل اثارة عن رواياته المعروفة.

تشكل الأمثلة التي يضربها ايكو لتوضيح مداخلاته ركنا اساسيا من الكتاب، ومكونا من مكوناته الأسلوبية المميزة. ولعل هذا نابع من اشارة المؤلف الى شعوره بالضيق، كما يفيد في ثنايا حديثه، من الدراسات المكتوبة في نظرية الترجمة خالية من أمثلة وافية. ويرى أن مثل هذه الدراسات اذا لم تكن ثرية في اشاراتها ثراء كتاب جورج ستاينر الفذ (بعد بابل): «لا يمكن أن تكون بأفضل من كتاب يتحدث عن الديناصورات دون أن يسعى الى توضيح أو رسم صورة لها».

يشير عنوان الكتاب الى أحجية الفأر والجرذ التي يواجهها المترجمون العاملون بين اللغتين الانجليزية والإيطالية. منشأ الإلتباس هو أن مفردة topo في الإيطالية تستخدم عموما للاشارة الى الفأر والجرذ معا أو الى المفردتين mouse - rat في الإنجليزية. ربما تبدو القضية سهلة ظاهريا فمن ناحية أخرى هناك في اللغة الايطالية مقابل للجرذ rat وهو ratto ولكن المشكلة تبدأ من إختلاف الإحالات التي تتضمنها كل مفردة من هذه المفردات في بيئتها اللغوية. يوضح ايكو ( ص32 ) أن التمييز بين المفردتين topo و ratto في الأيطالية هو تمييز تتضمنه المعاجم. ففي اللغة اليومية بإمكان المتحدث أن يشير بكلمة topo حتى الى الجرذ الكبير بمدها الى topone أو topaccio . يقول هذه معلومة طريفة عن الفوارق بين النظامين اللغويين في الأنجليزية والايطالية، ولكن ماذا سيحدث عندما نجد كلمة فأرة topo في ترجمة ايطالية عن نص فرنسي، هل سنعيد ترجمتها الى الفرنسية باعتبارها جرذا rat أم فأرة souris ؟

يتفحص ايكو في هذا الصدد ترجمة ايطالية لرواية ألبير كامو (الطاعون). في الفصل الأول من هذه الرواية يجد الدكتور ريو على درجات سلم العمارة فأرة sorcio ميتة. الكلمة الإيطالية الأخيرة هي المرادف لكلمة topo ولـ souris الفرنسية. ويرى ان المترجم انما اختار هذه الكلمة متأثرا بالتناغم الصوتي مع الكلمة الفرنسية مما يجعل القارئ يفكر في حقيقة أن رواية كامو تتحدث عن الطاعون وهو مرض تحمله الجرذان لا الفئران.

كذلك صرخة هاملت، في مثال آخر، عندما يكتشف بولونيوس المختبئ وراء الستارة في حجرة أمه: How now A rat. اذا ترجمنا هذا الى الايطالية، وفقا للتمييز المعجمي، يقول ايكو، لانتهينا الى كلمة ratto، ولكن مترجمي شكسبير الى الايطالية جميعا فضلوا ترجمتها الى topo لأن هاملت يصرخ لاكتشاف دخيل في غرفة نومه. والفأرة topo تؤدي معنى الحاضر الدخيل الذي يثير الفزع في الناس، والمتملص الخفيف سريع الهرب. لذلك يرى ايكو أن الفأرة ترجمة مناسبة لتطابقها ليس مع قصد الكاتب كما كان يعرف قديما بل مع قصد النص. وأن الخيانة الحرفية (أو عدم الوفاء بعبارة ايكو الأرق) أمر لا بد منه في عملية توصيل معاني نص ما عبر الفوارق اللغوية والثقافية الى قارئ آخر.

ومن الأمثلة الطريفة على الترجمة الآلية يسرد الكاتب حكايته الساخرة عن تغذية برنامج ترجمة اليكترونية بمقطع يحتوي على عبارة أعمال شكسبير وينتهي به المطاف بعد ترجمتها من الايطالية الى الانجليزية، ومن ثم الى الايطالية مرة أخرى، الى أن تصبح العبارة «مصانع شكسبير»! هناك وعينا الإنساني المشروط بالزمان والمكان ومعرفتنا وخبرتنا بهذا العالم كل هذا مما تتأسس عليه مشاكل وفروقات الترجمات وما نؤسس عليه أيضا موازين تحديد جيدها من رديئها. يبقى أن كتاب ايكو يزداد تعقيدا كلما تقدمنا في قراءة فصوله وعبر تحليله الفلسفي للاختلافات.

يجمل ايكو في هذا الكتاب رؤيته للترجمة بوصفها مساومة من باب انطوائها على التضحية بشيء ما، للحصول على شيء آخر وسط الفوارق المتفاوتة بين الأنظمة اللغوية. وليس أدل على هذا الأمر من ترجمتنا لعنوان كتاب ايكو. فالعنوان الفرعي للكتاب هو Translation as negotiation ولعل من الواضح أن نقاشا، وليس جدلا هي الترجمة الأقرب حرفيا للأصل negotiation، ربما للتقارب اللفظي بين المفردتين. لكن (نقاشا) في سياق العنوان الفرعي لا يوحي بحقيقة المطلب كما هو في الأصل ومثلما يوحي الاستعمال الأنجليزي لكلمة negotiation في الإجراءات التجارية وحيث يتم تحكيم مبدأ الربح والخسارة، وليس الصواب والخطأ كما في الكلمة العربية. لذا يمكن اعتبار (المساومة) بديلا مقنعا يفي بالاشارة الى المعنى المقصود في وصف الترجمة على أنها مساومة بين خسائر وأرباح، تفرضها من جهة الاختلافات بين الأنظمة اللغوية وتراوغها من جهة أخرى استراتيجية المترجم وقراراته في اعادة كتابة نص مكتوب بلغة أخرى. يقع الكتاب في مئتي صفحة من القطع المتوسط وفي ثمانية فصول هي كما يلي: مصانع شكسبير، أرباح وخسائر كميزان لقياس جودة ترجمة ما، الترجمة والمعنى، النص الأصل والنص المترجم، رؤية ألأشياء والنصوص، من استبدال مفردة بمفردة الى ترجمة المضمون / من ترجمة الجوهر الى المادة ومن ثم خلاصات في اللغة الكاملة والألوان.