الزمالك «حي الذوات» تقص حكايته إحدى الجدات

أشبه بالمركز الكولونيالي الأمامي يتحكم فيه الأوروبيون

TT

بدأ إدوارد سعيد مذكراته «خارج المكان» بعبارة لافتة، تقول: «هذا الكتاب هو سجل لعالم مفقود أو منسي». لا ترتبط هذه العبارة من مذكرات إدوارد سعيد بالكتاب الذي نتعرض له اليوم فقط، بل إن كثيرين ممن قرأوا مذكرات سعيد توقفوا أمام ما ذكره عن الزمالك، هذا الحي القاهري العريق في رقيه، حيث أكد: «أما جغرافية القاهرة وبيئتها الأغنى دلالة والأشد كثافة فكانتا تتركزان بالنسبة إلينا في الزمالك، وهي الجزيرة التي تتوسط النيل بين المدينة القديمة إلى الشرق والجيزة جهة الغرب، يسكنها الأجانب والأغنياء المحليون... لم تكن الزمالك تشكل جماعة موحدة وإنما كانت أشبه بالمركز الكولونيالي الأمامي يتحكم فيه الأوروبيون...».

كان هذا حال الزمالك كما عرفها سعيد عام 1937. وهذا المقطع هو ما تذكرته مباشرة، حين رأيت آخر إصدارات قسم النشر بالجامعة الأمريكية في القاهرة وعرفت من هي مؤلفته، فالكتاب هو «زمالك: الحياة المتغيرة للنخبة القاهرية 1850 ـ 1945»، و المؤلفة هي شفيقة سليمان الحمامصي، أرملة أحد رواد الصحافة في مصر، الراحل جلال الدين الحمامصي. و المثير أن السيدة الحمامصي عملت لسنوات في الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تخرجت فيها، كرئيسة لقسم الفهارس في المكتبة. أي انها عاشت محاطة بالكتب وموضوعاتها من كل لون، لكنها لم تكتب كتابها الأول إلا بعد التقاعد. والأهم أنها لم تفكر في البداية أن تكتب كتاباً، وإنما كان كل همها أن تبعث برسالة لأحفادها الستة، القريبين جداً منها، والمختلفين جداً عنها، فهم يفكرون عبر ثقافة عصر جديد لم تعهده هي، مما دفعها للتساؤل حول هوية عصر كامل من الطبقة التي انتمت إليها، مقترناً بالزمان والمكان، ولم يكن المكان، سوى جزيرة الزمالك، التي تصفها بأنها قطعة من الجنة. كانت تركب الحمامصي عجلتها وهي ابنة الثانية عشرة مع شقيقها لتجوبها في ساعة، حيث خضرة تعم المكان المكون من فيلات متناسقة تتقاسمها عائلات كبرى تعرف بعضها بعضاً، وكانت في رحلتها تلك لا تصادف أكثر من سيارة واحدة.

كتبت الحمامصي مؤلفها بالإنجليزية وهي لغة الدراسة والكتابة لديها، لا العربية، وإن اعتبرت أن ذلك أحد أخطاء طبقتها، وما تداركته مع أبنائها الذين تعلموا بعد الثورة، فأجادوا العربية إلى جوار الإنجليزية والفرنسية. ولا تعترف هذه السيدة بوجود ما يطلق عليه الطبقة الأرستقراطية في مصر، على طريقة الأرستقراطية الأوروبية تاريخياً. الطبقة التي تمثل ما يمكن أن تتوارثه أسرة بأجيالها المختلفة من نسب ومكانة ومال وصيت، وهو ما لم يحدث في مصر الحديثة، التي نشأت مع محمد علي الكبير، وبالتالي فهذه الحداثة قصيرة العمر نسبياً في مقياس الزمن. كما أن الزمالك في هذا الكتاب يمثل خصوصية وعمومية في آن، خصوصيته بما يتميز به كموقع جغرافي، وعموميته في ما يمثله من نموذج لأحياء عريقة أخرى سكنتها الطبقات العليا في تلك الفترة كالمنيرة والحلمية، ويظل الزمالك حتى اللحظة الراهنة موطن الأجانب والطبقة العليا، بالرغم من مزاحمة البنايات الضخمة للفيلات القديمة، وامتلاء الشوارع بالسيارات من كل نوع. والمفاجأة التي أخبرتنا بها السيدة الحمامصي أنها لم تكن صاحبة اختيار وصف النخبة في عنوان الكتاب، بل كان عنوانها الأساسي «زمالك: نبذات عن حياة مصرية»، لكن اختيار صفة النخبة كان من الناشر. وقد استغرق هذا الكتاب مؤلفته أكثر من سبع سنوات، توقفت في سنتين منهما عن الكتابة تماماً وتفرغت لقراءة تاريخ مصر عن الفترة التي تضمنها كتابها، حيث استطاعت أن تقدم توثيقاً متميزاً لأحداثه. هذا الكتاب تؤكد مؤلفته أنه يتحدث عن عصر تخشى أن لا يتذكره أحد بعد وفاة أبطاله، ونواة هذا العصر هم أسرتها لأمها، الذين يجمع بينهم كما تقول أنهم كانوا «أولاد ذوات»، بينما كان منهم الصعيدي القح الذي لا يعرف أي لغة أجنبية، لكنه يتمتع بكل شهامة الصعيد. وفيهم التركي، وفيهم الأجنبي الذي لا يعرف العربية. ولقد أرادت المؤلفة لأحفادها ولمن يقرأ الكتاب أن يعرفوا كيف كان يمكن أن تعيش أسرة من أولاد الذوات في الزمالك وتمر بحربين عالميتين، والتغيير الذي يمكن أن تعيشه هذه الأسرة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، تبعاً لتغيرات الدولة بأكملها. لكن أهم ما أرادت أن تبرزه خاص بقضية المرأة المصرية بين الأصالة والمعاصرة، حيث كانت جدتها، تلك المرأة الأمية، عالمة بخبرة الحياة، تتلقى تعليماً من أصول ومبادئ داخل البيت، لم يصرح لها بالخروج، لكنها كانت حصيفة للغاية، لقنت بناتها تلك الأصول، لكن كان من حظ بناتها أن يتلقين تعليمهن في مدارس الراهبات، فأصبح هناك متنفس للعلم، ثم جاء جيل المؤلفة في أسرتها ليخرج قدماً، ويتلقى التعليم في المدارس الأجنبية المتنوعة، ويذهب إلى نادي الجزيرة، الذي كان محرماً في البداية إلا على الإنجليز، ثم سمح لطبقة معينة من المصريين بدخوله. كما تلفت المؤلفة النظر إلى الدور المهم للغاية الذي لعبته المربية الأجنبية، تحديداً الإنجليزية، التي أصبحت طابعاً يميز أسر الطبقة العليا، أي أولاد الذوات، وقد حدث ذلك تحديدا بعد الحرب العالمية الأولى، فهذه المربية بثقافتها الإنجليزية شاركت في تكوين الوعي المبكر لدى أبناء هذه الطبقات، الذين أصبحوا يأخذون المنهج الإنجليزي كطريقة حياة، بينما أخذوا اللغة الفرنسية كلغة التواصل في الصالونات، ووسيلة تلقي الأدب.

لكن ما أكدته السيدة الحمامصي أن جيل أحفادها أخذ طفرة العلم، لكن لا علاقة له بحصافة جدتها. وتعتبر أن جوهر كتابها يتركز في فصل تتحدث فيه عن هذه الجدة، تلك المرأة التي تتذكرها وإن لم تقترب منها كثيرا، فتصف تحديداً مشهد وفاتها، والتفاف الأسرة حول سريرها. حيث تنظر الجدة إلى أحفادها، ومنهم من لم يعرف العربية، وفي نظرتها غموض لم تفهمه المؤلفة إلا حينما كبرت، فهذه الجدة شهدت ما يمكن أن تفعله قطيعة اللغة. فهؤلاء الأحفاد الذين لم يعرفوا العربية، لن يتذكرونها بعد وفاتها، بل لن يربطهم بعصرها شيء، فقد أدركت هذه الجدة برغم أميتها أن اللغة وعاء الفكر، وإن ماتت اللغة مات الفكر، ومن هنا تأسف المؤلفة مرة أخرى أن كتابها بالإنجليزية، وتأمل ترجمته، وإن كانت سعيدة لأنها استطاعت أن ترسل لأحفادها رسالتها، ولم تصبح كجدتها التي انقطع بعض أحفادها عنها تماماً. وإن كانت المؤلفة لا ترى القطيعة في اللغة فقط بين جيل يغرب وجيل يتقدم بعنفوانه، وإنما في منظومة العادات والتقاليد، أي في الفكر بحد ذاته بغض النظر عن لغة الفكر القائم واتفاقها واختلافها مع لغة الموروث، فهي تتحدث مع أحفادها بالعربية والأجنبية، لكنها تشعر أن الهوة أكبر من أن تجتازها اللغة. وتجد المؤلفة في أمها نموذجاً وسطاً لتلك المرأة التي تقبلت الحداثة، لكنها لم تنفصل عن واقعها بمتطلباته ومكوناته، فأمسكت العصا من المنتصف وأهدتها كما هي لبناتها. وتعترف الحمامصي بأن هناك من انتقدها في ما قدمته بوصفه مجتمعاً خالياً من العيوب، لكنها تؤكد عكس ذلك، فهي تصف رحلة أسرة عبر الزمان والمكان بدون أن تخضعها للمحاكمة، وإنما تترك للقارىء أن يحكم بنفسه عن طريق سرد لم يخف شيئاً، وترك التفاصيل واضحة للعيان، بل تؤكد، كلنا لنا أخطاء، لكن خطأ القطيعة المعرفية كبير. وربما تتضح خصوصية أخرى للمكان في الزمالك، في ذلك القصر المهيب الذي بناه الخديوي عباس لاستقبال الملكة أوجيني في الاحتفال بافتتاح قناة السويس، وقد أصبح القصر بطابعه الأسطوري وصور الملوك جزءاً من بنايات فندق شهير. فهذا القصر في الزمالك دون غيره، ظل محل تساؤلات واختلافات، فها هو شاهد على تاريخ مغاير لمصر أوروبية، نافست الغرب في معمارهم الأثير، لكنه في ذات الوقت تكلف الكثير مما تحمله المواطن المصري ودفع ثمنه، ليس فقط في صورة ديون مالية، بل يضاف إلى ما دفعه المصريون في حفر قناة السويس، التي دفن فيها من أبناء الوطن من ماتوا أثناء حفرها، ولم يكونوا بقليل. لكن من يراه لا يستطيع أن ينكره كتحفة معمارية وجزء من تاريخ مصر يجب أن يصان، وهكذا لا نستطيع إن اتفقنا أو اختلفنا مع فكر النخبة، أو أولاد الذوات في بلادنا، أن ننكر أن حيواتهم وما قدموه هو أيضاً جزء من تاريخ علينا أن نعرفه.