فوز نجيب محفوظ بنوبل أهو مؤامرة أخرى من إسرائيل؟!

حلال في السوربون وحرام في جامعة محمد الخامس

TT

في المقال المعنون: «أدباء مغتربون في لغتهم وعن قضاياهم» وبعنوانه الفرعي بصيغة الاستفهام الإنكاري: «هل توجد رواية عربية ؟!» («الشرق الأوسط» 5 يونيومن الجاري عدد 9686)، نلمس رغبة من صاحب المقال بوضع حد لـ «تواطؤ الرواية مع نفسها وتواطؤ النقد معها». وهي وقفة ظهر أصبع يشير بالإتهام لكل الكتاب العرب الذين زعموا، ومنذ قرن خلا، واستكانوا إلى وهم أنهم كتبوا أو يكتبون الرواية، وكذا النقاد «المتواطئين» المشايعين لهم، من يجرون أذيال نصوصهم وأوهامهم. ذلك أن قولا كهذا، في صك الإتهام، ليس إلا من قبيل «المسلمات والمسبقات» التي تحتاج إلى إعادة التفكير في شأنها، وهو ما يتطلب، من جهة المدعي الذي يرفض نطقه «التقليد والكسل والخطأ» التوجه إلى طرح أسئلة تظهر شجاعة مجترحها على «اقتحام دائرة الإبداع المتحركة المتغيرة أدبا ونقدا» أي خلافا للروائيين العرب المخبولين أو من في حكمهم، مع «النقاد والباحثين الذين استحكمت فيهم العادة» لمجاراتهم (كذا) نقول هو ما يتطلب عنده طرح الأسئلة، ولا خلاف هنا، ولكن، كيف، وبأية مرجعية علمية، ومن أي منظو؟!

بالمختصر، غير المفيد، فإنه بالإمكان أن نلوي عنق الشك الديكارتي على هوى معين ونحكم بضربة لازب أن لا وجود للرواية العربية، والدليل هو أن هناك رواية فرنسية، وإنجليزية، وروسية، ونضرب رأسنا بسور منيع هو استباق زعم الإحاطة الشاملة بمكونات ومؤصلات هذا الإنتاج السردي الهائل كمّا وقيمة، ولا حرج علينا بعد ذلك ما دامت الغاية هي «إشاعة وعي عربي مشترك» ينقذنا مما نحن فيه من «وضع ثقافي عربي حرج». سنترك جانبا الخلط المسف، حيث تتقاذف الأدلجة ووضع الجنس الأدبي، ونماشي منطق الإلغاء الأعمى فنتعامى أكثر، أي نجهل فوق جهل «الجاهلين»، ونذهب إلى أنه لا وجود، مثلا، للرواية الفرنسية، ونقول إنها متهافتة أو ضيقة، محصورة في حدود الأدب الوطني والنزعة الإقليمية. هذا كلام لا نلقيه على عواهنه فهو مبثوث في فصل كامل من الكتاب الأخير لميلان كانديرا «الستار» الصادر عن دار غاليمار2005، (الروائي ودارس الرواية)، الذي ينبغي أن نبدأ بالشك في وجوده إلى أن يثبت العكس. وفي ثنايا هذا الحكم سنعثر على نفي مطلق لمزعم وجود وعي فرنسي بالعالم (وهي بالمناسبة فضفضة لا تعني شيئا البتة) كما ورد في مقالة الجدل، أما الدافع الدفين وراء الرأي المذكور فيرجع إلى الموقف النقدي والإعلامي الثقافي الفرنسي الذي تعامل بما يقرب الاستخفاف مع روايات كانديرا الأخيرة بالتجاهل أو الإنكار أو بالتقليل من قيمتها الروائية، قياسا بأعمال سابقة، وهو كلام لا نرى أنه يجانب الصواب. لكن هذا لا ينال بتاتا من صميم قيمة هذا الكاتب الفذ، أو من رجاحة عقله وعمق تأملاته التي هي بنت ثقافة بعيدة الغور في الآداب الغربية، والرواية الفرنسية تحديدا، بما يؤهله عن جدارة لتذوق الثمرة ولفظ النواة.

لندع ذا، وننفض يدنا من مفاضلة، قد تودي بطالبها إلى المعضل والمعاضلة، ونبحث في الجوهر، أي ما يجعل الشيء موجودا أو منعدما، لا بالأهواء، طبعا، ولكن بقوة الأشياء، أي الرواية. وهذا جنس أدبي باجماع الباحثين والدارسين الثقاة، على أنه نشأ واستقر شكلا وتقاليد فنية في أدب الغرب، وبات شبه مكتمل في نهاية القرن التاسع عشر، وما حدث فيه بعد ذلك تطوير وتنويع وتجديد في الأسلوب وتقنية العرض والحبك ومنظور رؤية الإنسان والمجتمع والحياة عامة. وثمة إجماع ثان على أن آداب أمم أخرى قلدت أو اقتبست هذا الجنس، ونحن العرب من بينها، فعلها مع القصة القصيرة والفنون الدرامية الحديثة، فأنتجت فيه ما تيسر لها منه بين وضع التقليد الناقص تارة، والحسن تارة أخرى، بل وحال الخرق الخلاق الموسوم بإعادة التجنيس ما يدخل بالنهاية في حساب بذاخة الرواية ويبقيها في صدارة الأنواع الأدبية الأقدر تعبيرا عن حساسية تبدل العصر وما تمور به النفس الإنسانية من لواعج والمجتمعات البشرية من معضلات ; ذاك ما نلمسه في الرواية اليابانية التي أفلحت في عقد قران موفق بين قالب السرد الحديث والتقاليد الحكائية الموروثة. مثله في إبداع أمريكا الوسطى واللاتينية، التي باتت مشتهرة بنموذج واقعيتها السحرية. ونحن بدورنا تتلمذنا في سياق انطلاقنا النهضوي، الاجتماعي والثقافي، ليس على المنجز الفني للرواية الغربية بل وعلى كل ما كان مبذولا عند الغرب وقريب المنال ليسعف انبعاثنا ويؤهلنا للتعبير عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي رحنا نعيش فيها، في دائرة الزحف الإستعماري، وصدام الهويات والثقافات بين أصيل ودخيل وغيره مما خلخل البنيات القديمة وصنع أنماط عيش مختلفة أنتجت بدورها قيما ورؤى أخرى للعالم، هي التي ما انفكت الرواية العربية ترصدها وتعبر عنها منذ هيكل في «زينب» في أقل تقدير، وببقائنا دائما في إطار ما يجمع عليه الجمهور ـ وواصل روادها وُبناتها وأخلافهم وأحفادهم من بعدهم على امتداد قرن ونيف، في كل الأقطار العربية، وبتفاوت في التجربة والأداء، ينشؤون فيها النص تلو النص، يقبسون ويطورون، يسردون أنفسهم وحيوات منتقاة، دالة، من مجتمعاتهم، تجارب أكثر من واقع جديد تقلبت فيه تنقل على محك وعي تتعدد فيه الرؤى والمنازع ولكنه ذو لب واقعي وملتزم دائما إلى أبعد الحدود. كل ذلك والرواية العربية تتزيا بغير لبوس فني، قد تهيأ لها النضج والتفوق على ذاتها باختراقات جددت هيكلها، وظهر فيها من استلهم تراثا خبريا أو تقليدا فكريا أصيلا، ومن ارتبط بالمدرسة الواقعية أو الاستبطانية أو الحداثيات بكل مساراتها، ليس في ذلك شكل لغرب وشرق ولا منهج نقدي حلال في السوربون وحرام في جامعة محمد الخامس، أو حرية تعبير تسوغ عند الجرمان وتمنع عن ساكنة تطوان. أم أن الثقافة العربية ومخاضاتنا الحديثة كلها وهم في وهم، وما نيل نجيب محفوظ لنوبل إلا مؤامرة أخرى من إسرائيل (!).. من حسن حظ البشرية أن تاريخ الحضارة لا يصاغ بناء على الأهواء وإلا لكنا صرنا نسيا منسيا!

* رئيس رابطة كتاب المغرب