الكاميرا تسأل والصورة تجيب

علي عساف يعرّي مأساة المهاجرين العرب

TT

في الغربة كيف تتشكل صورة الوطن في ملامح الناس، وكيف يعيشونه على حافة مغامرة ربما قد تقودهم إلى المجهول، أو يظلون غرباء وسط آخرين ينظرون إليهم بخوف أحياناً، وباستعلاء وسخرية أحياناً أخرى، وبإحساس لا يخلو من أعراض الغزو الجماعي.. هذه الهواجس شغلت الفنان العراقي علي عساف ليبلورها في سؤال مفصلي هو «لماذا أنت هنا» ويوجهه بإيقاع الكاميرا إلى مجموعة من المهاجرين من شمال أفريقيا والمنطقة العربية إلى إيطاليا. وجمع الفنان هذه الصور والإجابات ليقدم بها معرضه الذي حمل عنوان السؤال نفسه «لماذا أنت هنا؟» بقاعة مشربية في القاهرة.

يقسم علي عساف معرضه إلى قسمين، القسم الأول تجهيز في الفراغ تحت عنوان «الجانب الغامض من الرغبة» ويقدم فيه مجموعة من الصور الفوتوغرافية مطبوعة بمقاس 35X50 سم منتشرة على الأرض، كل صورة كتب تحتها إجابة صاحبها وتحتها مجموعة من أوراق الكارتون السميكة بنفس حجم الصشورة، الصور ممتدة بانتظام لتشكل على الأرض علامة استفهام كبيرة. وأمام عدسة علي عساف الفوتوغرافية تبدت الإجابات متفرقة متعددة بتعدد الحالات التي مرت بالتجربة ذاتها، فمن بين الإجابات «لا أعرف» تلك الإجابة التي تلمح شقاءها وعذاباتها على وجه صاحبها الأسمر المجهد في غربته، ومفعمة أيضاً بصمت بريء مشحون تجاه السؤال. وإجابات أخرى تغلفها المرارة الواضحة وأغلب الإجابات يعبر عن سخرية سوداء قاتلة. فتلك المرأة البدينة في ملابسها العربية التقليدية تريد أن تعلم الإيطاليين الرقص الشرقي، وذاك يهرب من المدن المحجبة إلى مدن التفتح والانحلال ـ كما يقول ـ لكنه في الصورة هو نفسه محجب. وثمة من يصرخ مجيباً: «المال يا أخي المال» لكننا لا نرى من أثر لنجاحه شيئا، إذ حتى ملابسه لا تزال فقيرة بسيطة ووجهه تعصره الأزمة. أو تجد ذلك المعدم الذي يحلم بالسيارة الفراري، وتلك الإجابات المباشرة العميقة الهاربة من وقائع القهر والاستبداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

ومن تلك الإجابات البسيطة، تلك التي قالتها فتاة صغيرة ببراءة: «لأنني أنا». فإذا نظرت إلى الصورة رأيت الشال الفلسطيني لتعرف من تلقاء نفسك ومن النظرة الأولى ضخامة المآساة وعمق الجرح الذي تعانيه هذه الصغيرة دون الوطن.

في ذلك الجانب الغامض من الرغبة يقدم لنا علي عساف 24 صورة وإجابة، كل إجابة وكل صورة كأنها كتاب مستقل أو كأنها بئر ينظر المشاهد منها واقفاً وتخطفه الكاميرا إلى أسفل فيميل بجسمه كي يرى الصورة في عمق البئر وكأنه يلخص أوضاع هؤلاء الغرقى في الهوة بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب.

علي عساف نفسه صاحب المعرض، واحد منهم فهو عراقي ولد بالبصرة عام 1950 وهاجر إلى إيطاليا عام 1973، وفي عمله هذا تحرر من كل اللغات الشكلية وخرج عن دائرة الموضوع الجمالي إلى رحابة الفكرة، فتحول الشكل ببساطة إلى أداة تمهد للنقطة المركزية في عمله والتي تتيح له إيصال الفكرة واضحة هكذا. إن السؤال الذي يوجهه إلى هؤلاء المهاجرين ما هو إلا ذريعة ساخرة وأصيلة لتأكيد قناعته الخاصة التي سنخلص إليها بعد ذلك. فالإجابات تكشف أعراضاً شتى متناقضة وإن كانت تهكمية وساخرة وتعبر عن حقيقة واقعة دون أي رتوش. فإذا كانت الرغبة هي التي تحرك الفعل الفردي الحر، فماذا يحدث إذا أصبحت الرغبة تخص الجماعة بأكملها؟ وماذا يحدث أيضاً إذا تحول هذا الشرط إلى ظاهرة عالمية؟

هنا نلاحظ النزعة التهكمية والساخرة لدى علي عساف إذ أن ما يعانيه هؤلاء المهاجرون قبل أن يهاجروا هو ليس رغبة حرة خالصة وإنما هو ضغط وفرض تمليه عليهم حقيقة الفقر والقهر السياسي والاجتماعي الذي جعل هذه البلاد التي جاءوا منها بؤراً طاردة لهم حتى أنهم قد يموتون في محاولة الهجرة هذه غرقاً أو عطشاً أو ضرباً برصاص حرس الحدود دون أن يحققوا أحلامهم البسيطة في العيش في سلام. ذلك هو الجانب الغامض من الرغبة، تلك العوامل الخفية التي تحرك هذا الفرد أو تلك المجموعات لمجازفة كهذه.

يعكس علي عساف في عمله ذلك الوهم ويكشف ذلك الجانب الغامض من تلك الرغبة القاتلة، وكذلك الأمل الماثل في عيون هؤلاء المهاجرين.

في القسم الثاني من معرضه يقدم الفنان شريط فيديو قصيرا مدته 7 دقائق تحت عنوان «نقطة تفتيش لامبروزا» ويعرضه في جانب منفصل من القاعة.

في البداية تسمع أصوات صفارة النجدة والاسعاف والبوليس دون صورة في ظلام الغرفة، بضع ثوان مع هذه الأصوات، تشعرك بوطأة الظلام ورهبته وكأن المهاجر الذي يصل سالماً إلى جزيرة لامبروزا الإيطالية الجنوبية يقع في الظلام. هنا تظهر لوحة «طوف ميدوزا» لترميك في مأساة هؤلاء المصابين من الحرب الأهلية والذين لم يجدوا سفينة أو مركباً صغيراً حتى ينجوا، وإنما مجرد طوف جمع عليه الجرحى، فأياً كانت الرحلة وقسوتها وعنفها وويلات السفر في البحر والعوم لمسافات شاسعة فقد وصلت إلى أرض الأحلام التي ما هي إلا فراغ، تشعر فيه بدبيب قدميك وليس لك فيها إلا ملابسك المبتلة التي تبدأ في نشرها حتى تجف وهنا تظهر الذكريات وتفور، ومعها تسمع صوت المطربة «أسمهان» وينطلق الفنان علي عساف الذي هو نفسه المهاجر وهو بطل المأساة في قصة ميلادها عام 1973 على سفينة قادمة من اليونان في عرض البحر المتوسط ليؤكد على حالة الشتات وتداعياتها وتسرب الذكريات في عين المهاجر وفؤاده. وحين يبدأ في سرد قصته لا أحد يهمه أن يسمع ما اسمه ولا من أين أتى ولا ما هي حكايته ولا يتركه حتى يكمل ما يقول حتى تلك الصدمة في صوت ارتطام الأشياء ووقوعها على الأرض واندثارها مثل حياة المهاجر تماماً. فالعالم الذي يواجهه المهاجر دائماً يقلب المصائر والمسارات والأقدار ترسم له ما لا يمكن أن يتنبأ أحد به.

وتتقطع الصورة على الشاشة إلى ثلاثة أو أربعة تقاطعات في دلالة على تقطع السبل بالمهاجرين ويبدأ في تجميعها في صورة واحدة مرة أخرى ليكتمل بناء بيته الجديد الذي هو في الحقيقة عبارة عن مجموعة من الصناديق والعلب المختلفة الأحجام والأشكال والألوان فارغة بالية، كتلك الكراتين التي تحت صورة كل مهاجر صور ويسأله لماذا أنت هنا؟

يتكون بيت المهاجر الجدي من حكايات قديمة وقصص بالية لا يستطيع المهاجر في عين علي عساف أن يبدأ في الأرض الجديدة، حياة جديدة بعقلية جديدة وبلا ذكريات. وهنا نرتد إلى الإجابات التي قدمها من خلال الشخصيات التي صورها لنتأكد أن هذه الدقائق السبع في عمل الفيديو هذا ما هي إلا إجابة عندما سأله أحدهم حينما صوره: لماذا أنت هنا؟ لتردنا من ثم صورة دعوة المعرض والتي يبدو فيها علي عساف نفسه في ملابسه العراقية التقليدية التي لا تختلف كثيراً عن الملابس العربية في أي مكان في العالم العربي، ويتحول السؤال وإجابته لماذا أنت هنا؟ وأنت ما زلت في ملابسك التقليدية؟