خرافة الثقافة الألمانية الرائدة

اليمين الألماني يعادي الأجانب بحجة الخوف على الثقافة القومية

TT

اشتدت خلال الأسابيع الأخيرة حدّة الجدل في الأوساط السياسية والثقافية الألمانية حول عبارة أطلقها فريدرش ميرتس رئيس المجموعة البرلمانية «للاتحاد الديمقراطي المسيحي» في البوندستاغ تعرض فيها إلى قضية «الأجانب» في ألمانيا وضرورة اخضاعهم إلى ما أسماه بالثقافة الألمانية القائدة. وعلى الرغم من أن ميرتس، وهو الشخصية الثانية في الحزب الديمقراطي المسيحي بعد رئيسته انغيلا مركل، حاول حصر عبارته بمفهوم «الالتزام بدولة الدستور» باعتبارها المثل الأعلى للمجتمع، دون أن يوضح بدقة ما عناه بعبارة الثقافة القائدة، فإن سيلاً من ردود الفعل المعترضة أو المحتجة ما زال يتوارد في الصحافة والإعلام، بحيث أن هذه الموضوعة استحالت إلى كلمة إيحاء جذّابة، وربما ستتحول إلى برنامج انتخابي خلال الدورة البرلمانية المقبلة في 2002، بعد أن أصرّت قيادة الحزب على الإبقاء عليها ومدها محتوى قومياً جديداً. والغريب في الأمر هو أن هذه العبارة جاءت في وقت غير مناسب البتة، لا سيما بعد تحقق الوحدة الألمانية وتصاعد وتيرة النمو الاقتصادي وانخفاض العجز المالي للدولة وانفتاح ألمانيا على بلدان الاتحاد الأوروبي، بل ومطالبتها بضم عدد من دول أوروبا الشرقية إلى منظومة الاتحاد الأوروبي، كذلك مطالبة كبار رجال الأعمال في ألمانيا بتوفير أكبر عدد ممكن من العمّال الأجانب ذوي الاختصاصات الفنية المختلفة للنهوض بالصناعة الإلكترونية في ألمانيا ـ يقدر عدد المختصين الأجانب الذين يحتاج إليهم قطاع الصناعة هذا بعشرين إلى أربعين ألفاً. وحسب العوامل الديموغرافية وتضاؤل عدد السكان الألمان مما يعني انخفاضاً كبيراً في نسبة الأيدي العاملة الفتية، فإن ألمانيا تحتاج إلى نصف مليون مهاجر سنوياً، في حين لا يصل إليها الآن سوى مائة ألف مهاجر، معظمهم من اللاجئين الذين لا يحمل إلا القليل منهم مهارات تقنية عالية. فكان هذا السبب الذي دفع بقيادة الحزب الديمقراطي المسيحي إلى وضع استراتيجية عمل لتنظيم الهجرات إلى ألمانيا خلال السنوات المقبلة تدعو إلى تقليص عدد اللاجئين إلى الحد الأدنى. ويحتمل أن يتضاءل عدد السكان الألمان في السنوات الخمسين المقبلة بشكل خطير فيصل إلى أقل من أربعين مليون نسمة أي بمقدار نصف السكان الحالي، حيث إن مشاكل كبيرة ستترتب إثر هذا النقصان في السكان الألمان، منها فقدان الهوية القومية لصالح الجماعات العرقية المهاجرة. وبهذا المعنى فإن ألمانيا ستكون بالضرورة بلد مهاجرين شأنها شأن الولايات المتحدة أو أستراليا. وقد أعربت بعض الأوساط السياسية اليمينية عن مخاوفها من «أسلمة» أو «تتريك» ألمانيا أو على الأقل جعل الشعب الألماني يعيش نمطاً من التنوع الثقافي اللامحدود. لذلك سعى اليمين الألماني إلى إثارة مشاعر العداء إلى كل ما هو غير ألماني حتى وصل الأمر إلى المطالبة بالتمسك بالهوية القومية وقيم المجتمع الألماني الحديث. ويحتج اليمين الألماني، ومن ضمنه اليمين الجديد، حسب تعبير الفيلسوف يورغن هابرماس، بقيادة بعض المثقفين من أمثال بوتوشتراوس ومارتن فالزر بأن أصل العبارة يعود إلى فرضية طرحها بسّام طيي استاذ العلوم الإسلامية في جامعة غونتغن الألمانية والاستاذ المحاضر الآن في جامعة تل أبيب في كتابه الموسوم «أوروبا بلا هوية»، ومفادها هو أن فكرة القومية الألمانية بصفتها أمة ثقافية على نحو حصري لا تتلاءم مع القيم السائدة في أوروبا الغربية، لأن هذه الفكرة محددة في نهاية المطاف تحديداً عرقياً وثقافياً ضيقا. وبسام طيي المولود بدمشق عام 1944، والمقيم في ألمانيا منذ 1973، هو شخصية علمية واجتماعية معروفة في ألمانيا، وكثيراً ما كان يستضاف في البرامج التلفزيونية والإذاعية بصفته مختصاً بشؤون الشرق الأوسط. ومع أنه يعتد بأصوله «العربية ـ السامية» وديانته «الإسلامية ـ السنية»، إلا أنه غالباً ما تنصل عن جذوره هذه، بدليل أنه وافق قبل فترة وجيزة على أن يعمل استاذاً محاضراً في جامعة إسرائيلية وبوساطة مباشرة من السفير الإسرائيلي السابق بريمور الذي يشغل الآن منصب نائب رئيس الجامعة المذكورة. وقد أيّد بسّام طيي مطالب قائد الكتلة المسيحية في البرلمان الألماني المتعلقة بضرورة خضوع الأجانب، ولا سيما المسلمون منهم، إلى قيم المجتمع الألماني وثقافته، وذلك في مقابلة مع طيي نشرتها مجلة «فوكس» الصادرة بميونخ.

إلا أن هذه المطالب اصطدمت بمعارضة قوية من قبل الائتلاف الحاكم في ألمانيا وحتى من قبل حزب الديمقراطيين الأحرار المعارض، فنشر سيل من الآراء والتعليقات والمعالجات النقدية وأقيم العديد من الندوات التلفزيونية والإذاعية بغية تعريف ما هو ألماني بعد الحرب العالمية الثانية. فتبدلت العبارة دون أن تفقد محتواها فأصبحت في صيغتها الجديدة «الثقافة الرائدة في ألمانيا»، بعدما أصر الحزبان المسيحيان المعارضان على التمسك بهذه العبارة السحرية، لعلها تجلب لها الفوز في الانتخابات المقبلة. ويعتقد بعض المعنيين أن الغرض من إثارة هذه النعرة القومية هو الاعتقاد الضمني بأن الألمان لا يودون على العموم ما هو أجنبي. وقد علّق رئيس البوندستاغ فولفغانغ تيرزه القادم من شرق ألمانيا على نحو تهكمي بقوله إن الألمان الشرقيين الذين يكنون كرهاً شديداً للأجانب لم تكن لهم أصلاً ثقافة اختلاط بالأجانب، بحيث أصبح «الاعتداء على الأجانب جزءاً بديهياً من الوعي الذاتي اليومي». وتؤكد إحدى الإحصائيات التي نشرها معهد الأبحاث الجنائية في مقاطعة ليدرزاكس الألمانية بأن أربعين في المائة من تلاميذ الصف التاسع الإعدادي في مدارس مدينة رستوك الشرقية يكنون العداء للأجانب ويعتبرونهم السبب الأول في انتشار البطالة، وعشرون في المائة منهم يؤمنون بالعنف حلا «لمشكلة الأجانب»، وتعتبر الإحصائية بأن هؤلاء الفتيان ينفذون في الواقع الرغبات السرية لآبائهم.

بيد أن المستفيد غير المباشر من هذه الحملة المبرمجة، إلى جانب الأحزاب اليمينية، هو التنظيمات اليهودية التي عرفت عبر خبرتها الطويلة في هذا المضمار كيفية تحويل هذه الحملة إلى دعم مادي ومعنوي لها، حتى لو جاء الدعم بفعل الخوف من النفوذ «اليهودي» في الميادين السياسية والاقتصادية والإعلامية على الصعيد الدولي، وبالأخص في الولايات المتحدة الأميركية. وما زال الدور البارز الذي لعبته هذه المنظمات اليهودية ذات النفوذ الواسع، الذي أدى إلى الإطاحة بالرئيس النمساوي والأمين العام السابق لهيئة الأمم المتحدة كورت فالدهايم، كذلك تشديد الضغط السياسي على سويسرا لحملها إلى دفع تعويضات مالية لليهود المتضررين من النازية مما أجبر سويسرا على اختيار سيدة يهودية رئيسة للدولة، ما زال هذا الدور ماثلا لأعيان الكثير من رجال السياسة والاقتصاد في ألمانيا، فيظهرون قدراً من الرضوخ والتنازل أمام ضغوط «اللوبي الصهيوني العالمي».

في حين سيبقى الأجانب غير الأوروبيين المتضررين الفعليين من تصاعد حدة العداء للأجانب وسيدفعون الثمن مرة أخرى نظراً لانعدام الرغبة الصادقة لدى السلطات الألمانية في الاستجابة إلى مطالبهم وتطلعاتهم.