روائي عشق القرية لأنها أكثر انفتاحا من المدينة

صدور أول مجلد في الأعمال الكاملة لعبد العزيز مشري

TT

قبل أقل من عام على رحيل الروائي السعودي عبد العزيز مشري، أصدر أصدقاؤه «أصدقاء الابداع» أول مجلد من الأعمال الكاملة للمشري يحتوي على مجموعاته القصصية، ويتكون من ست مجموعات تضم 79 قصة قصيرة.

و«أصدقاء الابداع» نخبة أدبية التصقت بمشوار عبد العزيز مشري وتجربته الفنية. وعملت على جمع تراثه، وتعكف حاليا على اصدار مجلدات تحتوي على رسوماته التشكيلية التي برع فيها مثلما برع في القصة والرواية، وكذلك الدراسات الأدبية التي كتبها والمقالات التي نشرها أثناء انشغاله في العمل الصحافي، والدراسات التي كتبت فيه أو نقدت أعماله الأدبية. وكانت هذه المجموعة قد أصدرت مسبقا وفي أواخر حياته كتاب «ابن السروي وذاكرة القرى»، والذي يحتوي على قراءات نقدية وشهادات لعدد كبير من الأدباء السعوديين والعرب لأعمال المشري بالاضافة لمقابلة مع الأديب الراحل وعدد من رسوماته.

ولد الأديب المشري في قرية صغيرة من قرى الجنوب السعودي تسمى «محضرة» بمنطقة الباحة في العام 1953 وعاش فيها طفولته وتشّبع من تقاليدها، لكنه اضطر بدافع الحاجة للعمل واثبات الذات للخروج منها الى المدينة.. لكنه في أعماله اللاحقة بدا وكأن القرية التي فرّ منها تسكن داخله بكل تقاسيمها وتضاريسها، وحتى اللوحات الفنية التي كان يرسمها وهو الفنان في تلوين مساحات الرؤية البصرية بلوحات معبرة تستنطق المعاني الابداعية التي يفرغها في رواياته وقصصه، كانت تلك اللوحات تشير الى عنفوان القرية في داخله.

في بداية العشرينات من عمره عمل في الصحافة السعودية، وشارك في العام 1975 في تحرير ملحق «المربد» ذائع الصيت الذي كانت تصدره جريدة اليوم في الدمام، وخلال تلك الفترة عرف بغزارة انتاجه، وكان يسابق الوهن والضعف والمرض الذي كان يغزو أطراف وأجزاء جسده، فأصدر العديد من الدراسات الأدبية، فقدم للساحة الثقافية عدة أعمال أدبية كان أولها «المنتخب من أدب العرب»، في حين كانت أول أعماله القصصية «موت على الماء» وقدم كذلك «أسفار ابن السروي» و«زهور تبحث عن آنية»، ورواية «الحصون»، و«جاردينيا تتثاءب من النافذة»، ورواية «الغيوم ومنابت الشجر».

عاش المشري وحيدا تحت رعاية أخيه «أحمد» بعد أن فشلت أول تجربة زواج له ولم يرزق بأولاد، كما أن رحلته المضنية مع المرض طيلة عشرين عاما تقريبا حدّت من حرية حركته وانطلاقته، ومع ذلك فقد اشتغل بالكتابة والرواية وتميزت أعماله بحسه الانساني المرهف واقترابه الشديد من مناطق الوجدان النفسي، كما ارتبطت كتاباته بالهم الاجتماعي. ويحسب له أنه تمكن من توظيف الموروث الشعبي في معظم أعماله الأدبية ولذلك فقارئ المشري يطوف معه في قريته وأطيافها، بينما تمكن بجدارة من تكبير العدسة ليرى العالم من قريته.

لقد ظّل المشري غريبا في المدينة التي سكنها، ليس بسبب صخبها أو افتقاده للهدوء والسكينة في القرية، ولكن لسبب «ثوري» آخر أفصح عنه رفيق دربه الشاعر علي الدميني في مقدمته للمجموعة الكاملة بالقول: «بدون ذهاب الى التفاصيل أشير الى حقيقة أن مدننا التي تشبه كثيرا مدن العالم المتقدم، بما تتمتع به من بنية تحتية لا تشبه تلك المدن في حياتها الاجتماعية، وبكلام يقترب من سخرية الحقيقة يمكننا اعتبارها أشد محافظة من حياة القرى وأكثر قسوة ازاء حرية الفرد والرأي ومشاركة المرأة من تلك المجتمعات القروية».

المعاناة والإبداع لم يستطع أي من الأدباء ان يحولوا معاناتهم الجسدية الى وقود للابداع كما فعل المشري، الذي نشأ معتل الجسد، وواجه المرض بلا اكتراث، وركز تفكيره واهتمامه على الكتابة، بل أنه تمّكن من تحويل تلك المعاناة الى مادة ابداعية ترتسم فوق صفحات كتبه ومجموعاته، وبقدر ما كان الموت يتجه نحوه بشراسة، خاصة بعد أن أصيب بالفشل الكلوي، وبعدها بالغرغرينا وبتر قدميه، الا أنه ظّل متشبثا بالحياة، وازداد عشقا لها. وقصصه التي كتبها في مثل هذه الظروف خلت تماما من الضجر والألم والتشكي، أو الاستسلام واليأس في قصته «جاردينيا تتثاءب في النافذة» نجح المشري في التقاط صور مفعمة بالألم تارة والأمل تارة أخرى كما نجح في رسم ملامح الحياة بعيون المريض الذي يستلقي على سرير الغسيل الكلوي وينظر لدمائه تنزف داخل انابيب الغسيل. وبدا أكثر شفافية وتصويرا سيما وهو قد خصص المجموعة بشكل كامل لسرد قصص تحتوي على معاناة مرضى الغسيل الكلوي والمرضى الذين يعانون من الفشل الكلوي، وقد كان المشري واحدا منهم، ولذلك بدا كمن يسرد سيرته الذاتية من دون أن يفقده ذلك حسه المرهف وتعلقه بالحياة وكمية التفاؤل التي يغدقها بين الكلمات. والغريب ان القاص بدا رغم معاناته حساسا مرهفا وهو يتطلع لمناطق الخير والجمال في الحياة واستطاع ان يسرب من بين ركام الألم والبؤس شعورا مفعما بالأمل واستكشاف الجمال، ويشعر القارئ لهذه المجموعة بوجع القاص ولكنه ينجذب أكثر لثيمة انسانية متمردة ترفض ان يحجبها الألم أو يداريها المرض، فتراه يستشعر وهو على السرير آلام طفلة في الجوار، ويبعث الامتنان لمخترع البنج باعتباره «مخدر أوجاع البشرية».

المجلد الأول لأعمال المشري، والذي يحتوي على المجموعات القصصية، والتي نفد بعضها من الأسواق سيصبح مرجعا مهما للمعجبين بالأديب الذي أسس لفن الرواية السعودية وشقّ طريقا عريضا أمام الابداع المحلي ليكّون تجربة ثرية وخصبة، أغنت الأدب السعودي وأعطته «تأشيرة» نافذة لعالم أرحب.

في السابع من مايو (أيار) من العام 2000 ودّع الأديب المشري، «ريح الكادي» و«غاردينيا» وغادر بعد معاناة طويلة مع المرض، مسدلا الستار على حياة عامرة بالابداع، لا شك أنها ستصبح محطة يتوقف عندها الباحثون عن مسيرة وتطور الأدب السعودي.

=