الحروب حين تختصر بصورة واحدة

كتاب أميركي يتساءل عن أسباب فشل أميركا في حربها ضد الإرهاب

TT

يطرح كتاب بنجامين باربر «امبراطورية الخوف»، الصادر حديثاً عن دار الكتاب العربي في بيروت، سؤالين أساسيين

تتمحور أبحاث الكتاب حولهما: لقد انتصرت أميركا في الحملتين اللتين جردتهما ضد أفغانستان والعراق، فلماذا

لم يترافق هذان الانتصاران مع نجاح في الحرب ضد الإرهاب؟، ولماذا فشلت الولايات المتحدة في كفاحها للفوز

بالقلوب والعقول في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي تتوقف عليه نتيجة الكفاح من أجل الديمقراطية على المدى الطويل؟.

كل الأدلة تشير إلى أن استراتيجية الحرب الوقائية قد فشلت، وأن الديمقراطية الموعودة، ونبرة الحرية وحقوق الإنسان، ونغمة الحضارة والرقي، قد منيت بهزيمة أمام الصور الرقمية لسجناء عراقيين عراة في سجن أبو غريب في أوضاع تجسّد المهانة والذلّ، فيما ينظر سجّانوهم الأميركيون إلى الكاميرا لتسجيل لحظة تاريخية. كما سقطت صورة المخلِّص الذي سيستقبله الشعب العراقي بالورود والأرز في مشهد من ربيع سنة 2004، وارتفقت بدلها صور لأشلاء الجثث الأميركية المرعبة المتدلية من جسر قرب الفالوجة، فيما يهلل أصدقاء أميركا وحلفاؤها المفترضون.

لماذا لم تحصل الولايات المتحدة على مكافأة مرضية، ولم يتحقق المجد «للمحررين» الأميركيين، ولم يتحقق النصر الحاسم ضد الإرهاب لتحقيق الأمن القومي الدائم؟، ولماذا تعززت امبراطورية الخوف تحت راية الحرية؟، ولماذا لم تتساقط البلدان المجاورة للعراق في أحضان أميركا؟، ولماذا يتواصل اعتناق نظرية الحرب الوقائية رغم فشلها العملي في كل مكان؟.

لا شك أن القراءة الخاطئة لتلك الصور الوحشية والفجّة، واستنتاج أجوبة مغلوطة عن الأسئلة الكثيرة والمصيرية، والتمسك بالقناعات التي أسست لنظرية الحرب الوقائية، والاستمرار بمكابرة القوة، هي التي تدفع بإدارة الرئيس بوش إلى مواصلة التعنت، والمقولات الجاهزة التي لا تستفيد من الدروس منها: أن كل من يعارض أميركا في حربها ضدّ الإرهاب هو شرّ متجسد، وأن الأغراض الأميركية فاضلة حقاً، وأن سلوك الحرّاس في سجن أبو غريب انحراف، و«انهم بضع تفاحات فاسدة لا يمثّلون أميركا، بل هم وصمة عار على جبينها»

يقدّم الكتاب قراءة معمقة لتلك الصور، فالحروب عادة تختصر بصورة فوتوغرافية واحدة، ألم تختصر حرب فييتنام بلقطة لفتاة صغيرة يخطف الرعب وجهها وهي تهرب من انفجار قنبلة نابالم في حقل للأرز، والانتفاضة الفلسطينية ترويها لقطة استشهاد محمد الدرة. قراءة تينك الصورتين قراءة مقابلة لأميركا من قبل أميركي يحب بلاده، لكن لديه وجهة نظر مقابلة بشأن سياساتها التي ترى أن العالم ساحة حرب ملونة بالأسود والأبيض، يتواجه فيها الخير والشر في سلسلة من المواقع الفاصلة. فالكتاب يرى أن العالم ملون بالرمادي الكئيب، حيث الأخيار ليسوا أخياراً جداً في النهاية، والأشرار ليسوا أشراراً جداً. لا ملائكة ووحوشا، لكن مخلوقات ضعيفة ومشوشة، نبيلة أحياناً، ومضللة في الغالب، وهم ربما أقل إثارة للرعب مما يخشون، لكنهم ليسوا البتة نبلاء كما يدعون صراحة. لم تهتم إدارة الرئيس بوش بانسجام الحرب الوقائية مع القانون الدولي، وقال بوش: «لا يهمني ما يقوله المحامون الدوليون، سنقوم بتوجيه الضربة». وقد أعلن أن حرب العراق لم تكن حرباً تقليدية، إنما حرب وقائية في كفاح خطير ضد الإرهاب. فما أثار الانزعاج الشديد في صور الذين يرقصون مبتهجين أمام الجثث، هو بالضبط ما أثار الهلع من الصور التي بثت في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي في أعقاب 11 سبتمبر (أيلول)، صور أناس عاديين مبتهجين بالحدث العنيف لا لأنهم إرهابيون بل لأنهم يكرهون أميركا.

لماذا يكرهوننا؟. هذا السؤال يحيّر الأميركيين، لماذا يهلل «الأصدقاء» فرحين من أعمال القتل في حين يفترض بهم أن يكونوا شاكرين لنا؟، ولماذا يرحب الذين يكرهون الإرهاب بالهجمات البربرية ضدنا؟، ولماذا يبدو الشيعة الذين حررناهم من أعمال صدّام الوحشية كأنهم يفضلون إعادة تقوية معذبيهم؟، ولماذا يتمنى العراقيون الذين حررناهم الموت المريع لنا ويواصلون اغتيال الحكام الذين نعينهم مكاننا؟.

تكمن الإجابة في عدم جدوى الخوف كسلاح ديمقراطي، بل هو سلاح الإرهاب الذي لا تلجأ إليه الديمقراطية، إلاّ لتخاطر بجوهرها الديمقراطي «فتكتيك الصدمة والخوف يجد صداه في الخوف المشلّ الذي يستطيع الضعيف إحداثه بتكلفة بسيطة في أوساط القوي». ويضيف الكاتب: الحرب الوقائية لا تقي من الإرهاب، إنما من الديمقراطية. فهي توسع قاعدة المؤيدين الضمنيين، الذين لا يستطيع الإرهابيون العمل بدونهم. لقد تبين أن العامل غير المعروف في لعبة الحرب الوقائية هم المستفيدون غير الراغبين من سخائنا الديمقراطي، الذين يرفضون أن يكونوا شاكرين والذين تعادل معارضتهم الغاضبة نوعاً من الإرهاب الضمني، وهو ما يؤدي إلى مبرر للإرهاب وإن لا ينخرط بأساليبه بشكل مباشر.

لو كان أبو مصعب الزرقاوي يعمل بمفرده مع خلية صغيرة، لكان ألقي القبض عليه منذ وقت طويل، ولو كان أسامة بن لادن قاتل جماعي منفرد، لكان إلقاء القبض عليه مضموناً، لكن هذين المتعصبين تمكنا من الحصول على دعم ناس عاديين، فحولوا مناطق بأكملها إلى ملاذات آمنة.

يفترض منطق استراتيجية الحرب الوقائية أن مجموعة من المتحمسين الأشرار ترعاهم حفنة من الدول المارقة، هم المسؤولون عن الأعمال الإرهابية في 11 سبتمبر (أيلول)، والشرور التي تلت في الدار البيضاء وبالي والرياض واسطنبول ومدريد ولندن.

لقد ازدهر الإرهاب وتوالد رغم القدرات العسكرية والاستخباراتية الأميركية الهائلة، ورغم الهزيمة العسكرية للدول الراعية لأنه يتمتع بقاعدة شعبية أكبر بكثير مما نحن مستعدون للاعتراف به، وليس في أوساط الأشرار فحسب. فالإقرار بذلك يعني الإقرار بأن الإرهاب من أعراض الاختلال الجهازي العالمي. وما لم يتم التعامل مع هذه الاختلالات، ستتواصل الأهوال التي يتعرض لها الأفراد الأميركيون وغيرهم من مواطني الدول الداعمة، أو حتى عمال الإغاثة الإنسانية.

تعرضت الجهود الإنسانية نفسها للخطر بالربط الخاطئ، الذي افترضته أميركا بين اضفاء أحكام السوق على الاقتصاد، واضفاء الديمقراطية على الكيان. ومن الاجراءات الأولى التي اتخذها بول بريمر في صيف 2003، خصخصة قطاعات الطاقة والصناعة الثقيلة والإعلام. فقيام أميركا بالاختيار عن العراقيين، يعني فعلياً سرقة معلم من معالم سيادتهم. وهذا الخلط بين الخصخصة والديمقراطية، هو من الأخطاء التي تفسر المصاعب التي واجهها شق طريق الديمقراطية في العراق، بل يبدو أنه لن تكون هناك ديمقراطية في العراق طالما أن مواطنيه يفضلون الفوضى على احتلال أميركي يبدو أنه ممارسة لاستعمارية السوق.

إن أميركا ما زالت تسلك مساراً صدامياً مع التاريخ، وأن منارة الحرية التي كانت مثار إعجاب العالم تتحول بسرعة إلى صانع حرب، واستمرار الاحتلال يزيد التكاليف والمخاطر، ويرفع الطلب على الموارد، ويخلق أعداء جدداً تفيض عواطفهم «الجهادية». والديمقراطية لم تعد أملاً بسبب ارتباك اقتصادات السوق والديمقراطية. ويحذر تقرير للأمم المتحدة عن أميركا اللاتينية من أن الشعوب هناك فقدت إيمانها بالديمقراطية، حيث يصر 56% على أن التنمية الاقتصادية أهم من الديمقراطية.

وكان المؤلف قد حذّر في كتاب سابق صدر سنة 1995 تحت عنوان «الجهاد ضد عالم ماكدونالد»، بأن عالم العلمانية التجارية الأميركي يُدفع قدماً للتصادم مع الإسلام الأصولي والحركات المناهضة للعولمة، وبطرق تؤدي إلى تدمير الديمقراطية. ومن المؤسف أن تكون مصيباً عندما يثبت أن بلدك هو المخطئ.