سجل تاريخي مصور بارتفاع 50 قدما

فنان غربي يرسم بلاد الرافدين ما قبل العصور التاريخية

TT

مؤلف هذا الكتاب كان مدير المدرسة الأميركية للبحوث الشرقية في بغداد ورئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة بنسلفينيا، واكتشف تل «تبه كاوره» أي «التل العظيم»، الذي كان سجلا متراكما للتاريخ البشري في المنطقة على ارتفاع 50 قدما، وعد اكتشافه فتحا آثاريا كبيرا فتح صفحات تاريخ المنطقة وفهم حضاراتها المتعاقبة

حين بلغت روما التي تأسست في القرن الثامن قبل الميلاد مائة عام من العمر كانت نينوى في بلاد آشور قد بلغت أربعة آلاف عام من العمر.

بهذه المسافة الزمنية بين المدينتين نستطيع معرفة عمق حضارة بلاد الرافدين وتقدير تأثيرها في الحضارة الانسانية..ومن خلال إعادة تركيب بقايا وتركات المراكز المدنية والحضرية في بلاد الرافدين يمكننا كتابة قصة البشرية، قصة التقدم الثقافي والحضاري في هذه البلاد والبلدان المجاورة لها في الشرق الأوسط.

وكان أن وفد الى هذه البلاد منقبون وآثاريون وأكاديميون جعلوا من هذه الأرض ميدانا عمليا لدراساتهم التي أدت الى اكتشاف الكثير من ملامحها، ومن هؤلاء اي.أي. سبيزر مؤلف كتاب «حضارة وادي الرافدين نور لا يخبو»، الذي صدر حديثا عن دار الشؤون الثقافية في بغداد ترجمة كاظم سعد الدين.. والكاتب كان مدير المدرسة الأميركية للبحوث الشرقية في بغداد ورئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة بنسلفينيا، واكتشف تل «تبه كاوره» أي «التل العظيم»، الذي كان سجلا متراكما للتاريخ البشري في المنطقة على ارتفاع 50 قدما، وعد اكتشافه فتحا آثاريا كبيرا فتح صفحات تاريخ المنطقة وفهم حضاراتها المتعاقبة.

والكتاب الذي نعرضه هو بالأصل تحقيق مصور طويل نشر في مجلة «national geographic » بالعنوان نفسه عام 1951..تضمن دراسة مطولة عن أثر حضارة وادي الرافدين في تطور البشرية جاءت كمقدمة لمتن الكتاب الذي تمثل بـ«24» صورة لحضارة بلاد الرافدين منذ ما قبل العصور التاريخية، مرتبة حسب تتابع الأدوار الزمنية حتى منتصف الألف الأول قبل الميلاد رسمها باتقان الرسام هـ. م. هيركت..وكل صورة تمثل عصرا كاملا أو طورا بارزا من أحد العصور.

مثلت الصورة الأولى الانسان يساعد في بناء جنوب بلاد الرافدين في الألف الرابع ق.م، هذه المنطقة التي تعد المنطقة التراثية لجنة عدن، حيث تعاون في بنائها بالغرين الذي يجلبه من جبال أرمينيا دجلة والفرات والإنسان الذي عليه أن يسهم في جعل الأرض صلبة راسخة.. وتسعى هذه اللوحة الى تكثيف عدة قرون من التطور في مشهد واحد; فالرجال في الصورة يدوسون الأرض ويضعون الحصران على الهور الذي يجف ببطء وتحمل بقعة الأرض المنتزعة توا من الهور. وقدمت الصورة الثانية أقدم صرح معماري في العالم «الألف الرابع ق.م» واستندت هذه اللوحة في معلوماتها الى اكتشافات سبيزر في موقع «تبه كاور»، حيث رسمت فيها ثلاثة معابد. واحتفظ المعبد الذي يقع على شمال الصورة باللون الطبيعي للبن المجفف بالشمس، والمعبد الأوسط كان مزخرفا بالجص الأبيض، أما المعبد الذي يقع على يمين الصورة فيحمل آثارا من الزخرفة القرمزية.

وتبقى الصورة الثالثة في الألف الرابع ق.م أيضا وبطريقة بانورامية تقدم صورا لمشاغل الإنسان في ذلك الوقت ; صانع الفخار وفرنه المسدود الذي يمكنه من السيطرة على الحرارة، والرسام يطحن ألوانا حجرية ليستعملها بمهارة وصبر، والحلاق يستعمل صخور الأردواز كشفرات حادة، وصانع المزامير يستخدم العظام. وتنتمي هذه الصورة الى نهاية الألف الرابع ق. م مثلما تنتمي الصورة الخامسة التي تصور كيف أدى نقش الأختام الى اختراع الكتابة في الفترة الزمنية نفسها.

ويلج بنا المؤلف من خلال الصورة السادسة الألفية الثالثة ق.م إلى فناء معبد ليرينا نشاطات متنوعة..المعبد الذي تظهره الصورة بسياج بيضوي يكشف داخله عن معالم الحياة اليومية، حين كان الاقتصاد ريفيا وزراعيا مع تربية الأغنام والأبقار..كانت ساحة المعبد مكانا لقضاء أوقات الراحة والبهجة في ما عدا الأيام المخصصة للاحتفالات العامة وهي كثيرة ومهيبة; عزف موسيقي على أوتار قيثارة وحلقات مصارعة وملاكمة. وتنتقل الصورة السابعة بنا الى أواسط الألف الثالث ق.م لترينا مشهدا لـ«حرب محدثة» عرفت قبل 45 قرنا في مدينة لكش، رسمت الصورة اعتمادا على أدلة مشتركة من بقايا مادية مكتوبة، ولم تفد من الآثار الباقية من لكش نفسها، ويصور المشهد معركة بين لكش ومنافستها التقليدية دولة «أما» المجاورة لها.

«القبور الملكية في أور تخفي سرا رهيبا»، هذا هو العنوان الذي وضعه المؤلف للصورة الثامنة التي أبقتنا في أواسط الألف الثالث ق.م..تفاصيل الصورة تقترب من أسرار المقابر من دون أن تدخل فيها خاصة المقابر الجماعية التي ما زالت محط جدل بين المعنيين، فمنهم من يرى فيها مدفنا لحاشية الملك تدفن معه عند موته أو أنها قرابين بشرية قدمت في مناسبات معينة تدفن في قبر واحد. الصورة تقدم لنا موكبا في طريقه الى المقبرة، حيث تجهيزات ثرية ورماح منكسة الى الأسفل في إشارة الى مصير بائس.. وتبقينا الصورة التاسعة في المعابد، ولكن في زمن آخر، هو أواخر الألف الثالث ق.م. اختار المؤلف لهذه الصورة عنوان «حتى الآلهة كانت تسترشد بالديمقراطية» في تأكيد على أن الإنسان العراقي القديم قد عرف الديمقراطية البدائية، فقد صنع العراقي آلهته مثل صورته وصورهم على أنهم عرضة لجميع عواطف البشر الاعتياديين. وكان الملك عند العراقيين كائنا خارقا وليس شبيها بالفرعون المصري.

وتنفرد الصورة العاشرة بتقديم «نوح العراقي»، وهو يرسم صورة مروعة للطوفان العظيم، و«نوح العرقي» هو (أوتنابشتم) في ملحمة جلجامش الذي يبحث عن سر الخلود من آخر الناجين من الطوفان، وقد وصف الفلك بأنه مكعب تام مكون من سبع طبقات مقسمة الى تسع مقصورات وقد استوحى الرسام وجه نوح من «نرام سين» أحد ملوك سلالة أكد، كما هو مصور على مسلة «النصر» الشهيرة لذلك العاهل.

القانون بوصفه حاميا للدولة والمجتمع يتمثل في الصورة الحادية عشرة التي تعود الى القرن العشرين ق.م، وتمثل مشهدا من ذلك العهد، حيث يتم عقد زواج في لكش أيام (كوديا)، وبعد أن تسلم الأب ثمن العروس المشترط عليه يشير الى استعداد لإعطاء ابنته بوضع ختمه الشخصي على الوثيقة المطلوبة.

وتنقل لنا الصورة الثانية عشرة واحدة من أكثر الممارسات إثارة وطرافة في تاريخ بلاد الرافدين، وهي تنصيب ملك للبلاد لمدة يوم واحد من عامة الناس مقابل أن يفقد حياته بعد ذلك حيث يتم كل هذا في جو احتفالي لعامة الناس يتسم بالطرافة أحيانا. أما الصورة الثالثة عشرة فترينا سوق النخاسة لبيع الرقيق في القرن الثامن عشر ق.م. وتظهر فيها شابتان تعرضان مفاتن جسديهما أمام الجمهور وعبد يظهر قوته وهو يحمل على ظهره ثورا كبيرا..أما حمورابي الذي أشتهر بمسلته وورد ذكره في الكثير من تعليقات الصور فان الصورة الرابع عشرة أفردت له وهو يراقب الضرائب في أوائل القرن السابع عشر ق.م.

وما بين الطب والسحر وبينهما الدين تتوزع مشاهد الصورة الخامسة عشرة وتظهر أباً قلقاً يقف الى جانب سرير أبنه المريض، وكاهنين أحدهما يحمل وعاء فيه سائل سحري والكاهن الآخر يرفع يديه ابتهالا للآلهة.. وتبقى الصورة السادسة منشغلة بتفاصيل الحياة اليومية لبلاد الرافدين حيث «العدالة تلاحق موظفا فاسدا ـ القرن الخامس ق.م» المتهم في الصورة هو رئيس بلدية المدينة الذي سيشتهر في حوليات المدينة باسم «كوشيحري» الفاسد.

ومن الحياة العسكرية الى الحياة السياسية تنتقل بنا الصورة رقم (21) بتصويرها سفير الملك ميداس من أرمينيا وهو يقابل سرجون الثاني ويدهش لثراء قصره بظهور طراز البناء الفخم والزخرفة الجميلة.. وتكاد تكمل الصورة (22) فحوى الصورة التي قبلها وهي تنقل لنا مشهد عملية سحب تمثال عظيم الى أعلى جرف نهر دجلة في نينوى (711- 681 )ق.م. والجهد الذي بذله أبناء آشور في بناء قصورهم وحراسها من الثيران المجنحة، حيث نلاحظ الثور المجنح مسحوبا على زلاجة مع مئات الحراس والجنود والقادة.

أما الصورة (23) فقد كان عنوانها «نقية زوكوتر تقضي على مؤامرة في مهدها في زمن آشور بانيبال 668-626 ق.م. و(نقية زوكوتر) هي ملكة تولت عهد ابنها الملك «شمشي ادد الخامس» لصغر سنه، وقد أخذت زمام السلطة والعرش مدة أربع سنوات وذاع صيتها حتى وصل الإغريق وعرفت بفراستها وقدرتها على تفكيك المؤامرات...أما الصورة الأخيرة التي تحمل الرقم (24) فتعود بنا الى بابل لتصور موكب بابلي يحتفل بالسنة الجديدة، حيث يمر المحتفلون بشارع الموكب ويدخلون باب عشتار باحتفال مهيب يلي ذلك أجراء الزواج المقدس والذي يعول عليه في خصب البلاد ورفاهها. وهذا أقدم احتفال بعيد رأس السنة شهدته البشرية.