جمال الدين بن شيخ باح بما سكتت عنه شهرزاد

احتضن بيد واحدة حداثة العرب وتراثهم

TT

لا اعرف إن كانت «رواية» ألف ليلة وليلة قد ظلمت موت جمال الدين بن شيخ أم لا؟ إذ تزأمن رحيله الأسبوع الماضي، مع صدور الجزء الأوّل من ترجمة الليالي عن «دار غاليمار» ضمن سلسلة «لا بلياد» الفرنسية، وهي من أعرق السلاسل الأدبية، التي قد تضاهي قيمتها قيمة الأكاديمية الفرنسية نفسها. لم تكتمل فرحة ابن شيخ، عاش ثلث الفرحة لا أكثر بحكم أنّ «ألف ليلة وليلة» لن تكتمل إلا بصدور الجزء الثالث والأخير، وقد يستغرق ذلك سنتين بحسب ما أعلنت الدار، أي أنّ السرطان لم يسمح له أن يرى خلاصة جهده وثمرة علاقته مع الفاتنة شهرذاد من جهة، ولان صدور الجزء الأوّل، من جهة ثانية، جعل أغلب من كتب عنه لحظة رحيله يحصره في هذه العلاقة.

هذه المرأة سرقت الكلام عن جمال الدين بن شيخ، خطفت أضواء رحيله، علماً، أن شخصيته وعطاءاته تتعدى بكثير ليالي سيدة السرد العربي. نعم، لا ريب في ان عمله على ألف ليلة وليلة مع زميله المستعرب القدير أندره ميكال لإخراج ترجمة فرنسية تجبّ إلى حد كبير ما قبلها، تستأهل التنويه، والبحث في فن الترجمة، إلا أنها لا يمكن أن تختزل الرجل، هذا الواحد المتعدد، هذا العربيّ العائش في صخب الغرب، باريس، حيث درس ودرّس، أجيالا من الطلاب العرب وغير العرب الذين تفتقت قدراتهم العلميّة على يديه، وانفتحت أنظارهم أيضا على نمط من القراءة جميل للموروث العربي وللحداثة العربية على السواء.

فجمال الدين بن شيخ لم يكن شاعرا فرانكوفونيا وحسب، ولم يكن باحثا في الأدب الخرافيّ والأسطوريّ والخياليّ العربيّ وحسب، ولم يكن متعمّقا في دراسة «العمود الشعري» العربي وحسب، ولم يكن مترجماً قديرا، وذا جلد على نقل الوهج الشعريّ العربيّ إلى اللغة الفرنسيّة وحسب. كان كلّ هؤلاء جميعاً وكان فضلاً عن ذلك بليغا في تذويب كلّ ذلك في شخصيّة واحدة وفي نفَس واحد.

عربيا غيورا

من يقرأ له «الشعرية العربية»، وهو أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، يدرك أنّ ابن شيخ كان قارئاً ضليعاً وناقداً حاذقاً، وعالي الخبرة بمكأمن الجمال في التراث الشعريّ العربيّ القديم، لم يتعامل مع التراث بروح انتقاميّة ـ كما يتعامل البعض راهناً ـ مع «عمود الشعر»، كما لم يتعامل أيضا بروح يعميها حبّها عن قراءة المثالب. كان بين بين، يقسو حيث تدعو الحاجة ويلين حيث تدعو الحاجة، وكان في لينه وقسوته محبّاً لتراثه لم يتخلّ عن جلده ولا عن بني جلدته في الغرب، ظلّ عربيّا غيوراً، ومقهورا لما يرى من تهلهل في عالمنا العربيّ الراهن. بل هو ما ترك الجزائر إلا حين وجد أنّ ثورتها خانت أبناءها وانتهكت مبادئها، ولكنه لم ينقلب على مبادئه وهو في فرنسا. ومن كان على صلة به يعرف انه كان يحدب على الطلاّب العرب، وإنْ كان حدبه يحمل، في بعض الاحيان، ملامح وجهه القاسية التي كانت تخفي خلفها حنّواً مرهفاً. وان أنسى لا أنسى كيف اهتمّ بي حين وصلت إلى باريس إيذان الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 لمتابعة دراستي الجامعية، وكيف خطّ بقلمه العصبيّ توصية بي للدكتور محمد أركون، ولكن في ختام حديثي معه قال لي كلمة انحفرت في ذهني: «لا تقدّس اللغة العربية»، تقديسك لها مقتلها. ولم يكن يقصد من وراء ذلك إلا أنْ أتعامل مع اللغة العربية باعتبارها لغة الحياة. فكم من لغة في العالم كان تقديسها سبباً من أسباب انحباسها في طقوس وأقفاص وأصفاد جعلتها عاجزة عن التنفّس الطبيعيّ، والاستمرار بقواها الذاتيّة.

العبث اللغوي ممنوع

من الملحوظ أنّه كان يتعب على كتاباته، وأنّه كان يعتمد على روحه العلميّة الرحبّة. فهو من الناس الذين يعرفون أنّ الإنشائية، بالمعنى السلبيّ للكلمة، تطمس ما يدرس بدلاً من أن تبرز ملامح وجهه. وهو كان يسعى إلى كشف المناطق الحسّاسة في ما ينتاوله قلمه. ولا ريب في أنّ ذلك يتطلّب أدوات عدّة من جملتها امتلاك نيّر للغة وان كانت اللغة لا تكفي بمفردها لتبيان معالم وجماليات المدروس. ولا زلت اذكر افتتاني بكتابه الذي بات من كلاسيكيّات الدرس النقديّ عن الشعريّة العربية، وكيف انه استعان بالموسيقى ليلقط ذلك النغم المتواري خلف الكلمات، وكيف كان يتغلغل في كل تفاصيل النصّ الذي يدرسه إلى حدّ يمكننا ان نقول فيه ما قاله ابن رشيق القيرواني في شعر ابن الرومي: «يقلب المعنى ظهرا لبطن فلا يترك زيادة لمستزيد». هذا ما فعله أيضا في دراسته عن «خمريات أبي نواس: موضوعات وشخصيّات» الرائدة التي تعتبر، عن حقّ وحقيق، فتحاً في الدراسات الدلاليّة، حيث عمد جمال الدين بن شيخ إلى دراسة مفردات الخمرة دراسة وظيفيّة وجمالية ودلالية بمعنى انه درس المترادفات ليس على أنّها مترادفات، وليس على أنّها مدرجة اعتباطاً في النصّ لإقامة أود الوزن، كما يقول عدد لا بأس من الكتّاب، حين يعجزون عن ربط المفردة بسياقها العام، أو كشف دلالتها المضمرة، خصوصاً أنّ أبا نواس العابث في حياته العامة ما كان يسمح لملكته الشعرية بالعبث اللغويّ.

الارتجال المموّه

ومن دراساته الطريفة حقّاً، وما هي بدراسة في الحقيقة، ذلك الحوار المديد الوارف الذي جمعه مع زميله المستعرب أندريه ميكال ونشر بعنوان «عن العروبة والإسلام»، وهو طريف لأنّه يجعلك تظنّ أنّه مرتجل، وأنّه كلام شفهيّ، أفرغ في نصّ، وينطبق عليه ما يمكن أنْ يسمى بـ «الارتجال المموّه»، أو «الارتجال المدروس». وهو حوار يتناول كلّ شؤون العالم العربيّ بأسلوب سيّال، وما زلت أذكر منه الفقرات التي يحلل فيها سبب ولادة الموسوعات في عصر الانحطاط، وكيف أعطاها تفسيراً مرعباً، فهو يقول: إنّ العرب شعروا لأوّل مرة أنّهم مهدّدون بالانقراض أو الضياع أو التشتّت، فراحوا يكدحون في إنقاذ الذاكرة العربيّة، معتبرين أنّ هذه الموسوعات ليست أكثر من تجميع لذاكرة يجتاحها التمزّق والتلاشي.

ومن حسنات جمال الدين بن شيخ أنّه لم يحصر قدراته وطاقاته في أدب العصر الذهبيّ، وإنما عاش إبداعات عصره وتياراته، فإذا ما رحت تحاول تفكيك مصادره وجدتها تنهل من القديم والحديث بقدر متساو، بل نظر إلى القديم منظور الحداثة ونظر إلى الحداثة بمنظار عريض الزاوية، من دون ان يؤدي ذلك إلى خلل في شخصيته الثقافية، تماما كما قضى حياته في باريس دون أن يتخلّى أو يتنكّر لجذوره وتراثه، فلم يتحوّل إلى مستعرب متعالٍ أو مستشرق نزق. ظلّ عربيّاً ولكنْ بزيّ غربي.

رفض الانغلاق

كان أحد الحاضنين للأدب العربيّ في باريس، وترجماته والمقدّمات التي يستهلها بها خير دليل على رغبته في ان يكون للعرب حضور حضاري يوازي وجودهم الإبداعي، ومن الدراسات الرائعة التي قام بها دراسته التفصيلية والعميقة والممتعة لديوان الشاعر السوريّ أدونيس «كتاب التحوّلات والهجرة في أقاليم النهار والليل»، دراسة استخدمت باقتدار المذهب البنيويّ والسيميائي والأسطوري والموضوعاتيّ جميعا. ويمكن القول ان دراسته هذه من أفضل الدراسات التي تناولت هذا الديوان الملتبس والغني. وتعدّد أدواته لا يعني تشتتّا في المنهج بقدر ما يعني مهارة فائقة على فتح قنوات بين المناهج تؤدي إلى توسعة حقل النظر، شأنه في ذلك شأن باختين، من حيث رفضه الانغلاق في منهج واحد صارم وأعمى.

كما كان لجمال الدين بن شيخ اهتمام حادّ بدراسة «الخيال العربي»، وان كانت «ألف ليلة وليلة» استغرقت الكثير من سنوات عمره، فان «رحلة الإسراء والمعراج» أيضا استغرقت جزءا غير يسير من حياته، فهو اهتمّ اهتماماً كبيراً بها فعمل على جمع نصوص المعراج المخطوطة والمطبوعة، من مختلف المصادر، وقام بالتأليف فيما بينها وترجمتها إلى الفرنسية، ودرسها من حيث دورها ووظيفتها في حياة الناس، لا سيما في شهر رمضان حيث يتحول سماعها إلى طقس دينيّ لاهب، يسيل دموع النسوة، فيقول «لا يمكن أنْ تنسكب دمعة من عين امرأة مسنّة على نصّ، ويبقى هذا النصّ خارج حيّز الدرس». كما أنّه درسها أيضا لأنّها تنتمي إلى الأدب المهمّش، وهو يعتبر أنّ ما يعرف بالأدب المهمّش يحتضن أكثر من غيره فضاء الخيال العربيّ كما أنّه يختزن الوعي الجمعيّ لهذه الأمّة.

كما لفت النظر في كتابه المرموق «ألف ليلة وليلة أو الكلام المأسور» إلى المسكوت عنه أو المطمور تحت غبار السرد المشوّق، معتبراً أنّ «ألف ليلة وليلة» بمثابة رواية بكلّ معنى الكلمة، وأنّها استعارة مديدة، إذ إنّه لم يكتفِ بالنظر إلى الشخصيّات والحكايات والمغامرات الفرديّة، التي تعجّ بها حكايات شهرزاد، وإنّما ذهب إلى أبعد من ذلك، ذهب إلى اعتبار هذه «الرواية» حاضنة لدلالات الوجود الجوهريّة، وكان دأبه في قراءتها تحرير الحكايات من علاماتها المعتمة. وأظن أنّ دراساته المتعددة عن «ألف ليلة وليلة» إنجاز أهمّ من ترجمته لها والتي تعتبر من أنقى وأكمل الترجمات.

---------------------------------------

كلام الصور وهي 5 صور /صورة الكاتب/ شهرزاد/3 صور لأغلفة كتب بن شيخ

1 ـ

2 ـ

3 ـ 4 ـ 5 ـ