الصحارى والراقصات نصيب العرب من مشروع «بنجوين» السبعيني

الرجل الذي جعل الكتاب بكلفة علبة السجائر

TT

أكملت دار النشر البريطانية الشهيرة «بنجوين» عامها السبعين، فأصدرت بهذه المناسبة سبعين عنواناً في هيئة «كتاب الجيب»، لسبعين من الكتاب العالميين. يحوي الكتاب الواحد خمسين صفحة من القطع الصغير، يكون مقتطعاً من عمل كبير للأديب أو من أعماله الكاملة، سبق لبنجوين طباعته. ويبلغ سعر الكتاب جنيها ونصف جنيه استرليني. فما حصة العرب من هذا المشروع، وأي صورة عنهم تعكسها المختارات الأدبية المقدمة في صيغة تجعلها في متناول الجميع.

«بنجوين» التي أصبح لها اليوم فروع في أنحاء مختلفة من العالم كأمريكا وكندا واستراليا والهند، تأسست عام 1935على يد السير آلان لين، الذي كان يوماً عائداً بالقطار من زيارة للكاتبة أجاثا كريستي، ولم يجد كتاباً يقرأه، ففكر في عامة الناس الذين يرغبون في القراءة لكن تقف أمامهم عقبات عدة، فمن أراد القراءة في ذلك الوقت كان عليه إما أن يكون ثرياً أو لديه بطاقة مكتبة عامة. فلم تقفز في رأس لين فقط فكرة تأسيس بنجوين وإنما فكرة الكتاب ذي الغلاف الورقي، حيث كان الكتاب قبل ذلك صلد الغلاف مرتفع التكلفه. أراد لين أن يقيم ببساطة مشروعاً جماهيرياً للكتاب يضمن به جودة الموضوع وقلة السعر، أراد للكتاب أن يصبح بسعر علبة السجائر وتحقق له هذا. واليوم سيكون لعناوين بنجوين السبعين جولات حول العالم لا في بريطانيا فقط، وسيتم تداولها بكثرة وبالفعل وصلت أخيراً إلى القاهرة.

أصوات القارة الأميركية

* ويمكن النظر للعناوين السبعين من ناحيتين، من ناحية اسم المؤلف وما يمثله، ومن ناحية الموضوع وما يطرحه. فمن هذه العناوين ما يقدم صوت أمريكا اللاتينية من خلال اثنين من عمالقتها، هما الشاعر والقاص خورخي لويس بورخس والروائي جابريل جارسيا ماركيز الحائز على نوبل، فنجد «مرآة الحبر» لبورخس، كمجموعة منتقاة من قصصه القصيرة، التي تطرح كعادة بورخس تساؤلات تأملية وفلسفية، تقوم على مفارقات حادة في الأحداث، تدفع القارىء دوماً إلى قلق وجودي. وتأتي «سبعة عشر إنجليزيا مسممون» كمجموعة قصصية لماركيز، تقدم أربع قصص تعتمد على التأرجح بين الواقع والحلم، وتدفع بالخيال كقوة أساسية متحكمة في سير الحدث. واختيارات الناشر للقصص تنم عن فهم وذوق رفيعين.

ومن بين أصوات أمريكية متعددة يبرز جون ستاينبك الكاتب الأمريكي الشهير وحائز نوبل، في مجموعته القصصية «القاتل»، التي تقدم نماذج من أعماله التي منح فيها القوة لصوت الفقراء والخاسرين، في فترة الثلاثينيات التي كدحت فيها أمريكا اقتصاديا، وتبنت السينما في هوليوود العديد من أعماله. ويأتي ترومان كابوته، الذي ذاعت شهرته في نيويورك، وأثر في الحياة الأمريكية كثيراً بعد أن قدم «دم بارد» وهي قصة حقيقية لقاتل، في مجموعة «نظرتي للأمر» كنموذج آخر للإبداع الأمريكي. وتبقى تحفته «إفطار في تيفاني»، التي تحولت إلى فيلم مثلته أودري هيبورن، عالقة في الأذهان.

عبقريات خاطبت العالم

* كذلك يقدم المشروع أصواتاً دخلت التاريخ الإنساني معبرة عن الجميع لا عن عبقريتها فقط، أو حضارة بلادها، بغض النظر عن دينها وعرقها، كسيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي، في كتاب «أشياء منسية» المقتطع من عمله «سيكولوجية الحياة اليومية». حيث يناقش هذا الجزء طبيعة الذاكرة الإنسانية، وكيف يمكن لتلك الذاكرة أن تقود صاحبها لضلالات عبر ما تم تخزينه من خطأ. كذلك يأتي فرانتز كافكا باحباطاته، أحد أهم المعبرين عن الأدب الحديث في بداية القرن العشرين، متحدثاً إلى النفس في دواخلها، في مجموعة قصصية تتخذ من قصته «سور الصين العظيم» عنواناً لها.

ولم تخل القائمة من المؤرخ الإنجليزي نيل فيرجسون، الذي عرف بتقديم التاريخ في شكل تعليمي للقارىء العادي، في جزء مقتطع من كتابه «رثاء الحرب» بعنوان «1914: لماذا دخل العالم الحرب». وتضم القائمة أسماء كبرى عديدة، كفرجينيا وولف وأناييس نن وجورج أورويل، وتوني هاريسون، نعوم تشومسكي وبات باركر وروبرت جريفز وغيرهم. وتشير المختارات إلى دقة شديدة في الاختيار، هدفت إلى التنوع بين المبدعين عبر الزمان والمكان والخلفية الحضارية، مع وضع أغلفة جذابة للقارئ.

صورة العرب في مختارات «بنجوين»

* كل ما سبق يجعلنا نتعجب من اختيار بنجوين لمقتطف من كتاب «فلوبير في مصر»، وهو الكتاب الذي يضم الرسائل التي بعث بها الروائي الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير، صاحب «مدام بوفاري»، إلى والدته وأصدقائه، أثناء الرحلة التي قام بها إلى مصر عام 1849 بصحبة المصور الفوتوغرافي الرائد مكسيم دي كامب. وتم وضع هذا المقطع تحت عنوان «الصحارى والراقصات»، مع غلاف عجيب يمثل فتاتين عاريتين، وسط خلفية تمثل الهرم وعمودا فرعونيا، مع رمال ونخلتين.

وتم التركيز في هذا المقتطع، دون ما كتبه فلوبير، على ما يعكس العنوان حرفياً، ليعطي صورة عن مصر، التي تمثل قلب الشرق والأمة العربية، بوصفها بلد الصحراء والراقصات. وتبرز في احدى ملاحظات فلوبير على رحلته، المقارنة التي أجراها بين رقص عشيقته المعروفة بكتشك هانم، وراقصة تدعى عزيزة، من خلال وصف حركات الرأس والرقبة

وأعضاء الجسد، والوقوف على قدم واحدة، وما يتم خلعه من ملابس...إلخ.

والتساؤل هو: هل تعكس هذه الصورة قناعات «بنجوين» كدار نشر عريقة، إلى الحد الذي يجعلها تقدمها للعالم، في هيئة كتاب للجيب اختارته من بين آلاف العناوين لديها؟ وهل هذا هو نصيب الشرق العربي من مشروع معرفي ضخم... مجرد صحارى وراقصات، لا شيء آخر! ولمصلحة من يتم هذا الطرح؟ هذا إذا تركنا نظرية المؤامرة جانباً،

وتساءلنا أيضاً حول أدب أمريكا اللاتينية الذي تم تقديمه عبر أبهى صوره وموضوعاته، وهل السبب في ذلك أن أمريكا اللاتينية برغم تخلفها في الركب لا تنفصل عن الغرب.

وهل تكون مجرد مصادفة أيضاً أن يشمل المشروع كتاباً يضم بعضاً مما كتبه ألبير كامو، عن عودته لزيارة مكان ولادته الجزائر، تحت عنوان «صيف في الجزائر»، وتكون الصفحة الأولى التي تقابل عين القارئ هي تلك التي يقول كامو فيها: «... لا يوجد شيء هنا، لأي من كان يرغب في التعلم، يثقف نفسه، أو يحسن من نفسه. هذا البلد لا دروس لديه ليعلمها».

لماذا تصاب الصورة المقدمة للقارىء في لغات أجنبية بالقتامة، فور الاقتراب مما هو عربي، بينما تنير بنماذج أخرى تثير التعاطف والشفقة، وقد تفطر القلوب بعد العزف على أوتارها مرارا. فمشروع بنجوين يقدم تحت إحدى عناوينه «الملحق السري» من يوميات آن فرانك، تلك المراهقة الفذة التي كتبت يومياتها عن حياتها وأسرتها، في ملحق سري ببيت أسرة كريمة، تطوعت لإخفاء آن فرانك وأسرتها اليهودية عن أعين النازيين، بعد دخولهم أمستردام، أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد كتبت آن فرانك التي لم تتعد الرابعة عشرة آنذاك يوميات الأسرة الكئيبة في شكل خطابات لقطتها كيتي، ضمنتها جميع التفاصيل اليومية لحياة لا تطاق، يحيط بها الخوف والرعب من المجهول، في شكل أدبي بسيط رفيع، يقرأه اليوم الكبار والصغار عبر العالم في جميع اللغات، ويجعلك تعيش مع أسرة كان كل عارها لدى عدوها الدين، لحظة بلحظة. وتعد يوميات آن فرانك اليوم احدى الوثائق على أحداث الحرب العالمية الثانية، وقد قتلت آن فرانك مع جزء من أسرتها في معسكرات التعذيب التي تم اقتيادهم إليها، بعد الوشاية بالملحق السري واكتشافه، بينما فر والدها، وهو من قام بنشر يومياتها.

والغريب أن العرب هم من يدفع فاتورة الحرب العالمية الثانية اليوم، بعد أن أهدت بريطانيا فلسطين لليهود تعويضاً لهم، وهم الذين يقدمون في الأدبيات الأجنبية في صور مشوهة ممسوخة، ولا يتم التعاطف مع ضحاياهم على مدار أكثر من نصف قرن، قدموا من خلاله آلاف النماذج مثل آن فرانك.