«الفروبينيس».. عندما تتحالف مافيا الآثار مع وكالات الجاسوسية

قصة اتفاقية جزائرية تشرّع سرقة الآثار:

TT

لم تكن حادثة لصوص الآثار الألمان، الذين ألقي عليهم القبض قبل أشهر في الجزائر، سوى الفصل الأول الذي كشف عن أكبر عملية سرقة أثرية في تاريخ هذا البلد العربي. والعجيب أن السرقة تمّت عبر اتفاقية رسمية. والأعجب أن الفضيحة اشتملت، أيضا، على جرائم تمس بالأمن القومي الجزائري.. أما الذي يسبب الإغماء فهو ان الفاعلين أحياء ولم يحاسبوا!! وهذه هي التفاصيل.

مطلع السنة الجارية، دعيت كغيري من الإعلاميّين لتغطية ندوة صحافية لمسؤولي وزارة الثقافة حول (قضية اللصوص الألمان)، أو الفضيحة التي نجمت عن تورّط سياح ألمان في سرقة أثرية جزائرية لا تقدّر بثمن. يومها سمعت في الكواليس همهمة باسم (فروبينيس) تتكرّر باستمرار، يضاف إليها كلمات من طراز (تواطؤ) أو (هذه هي النتيجة) أو (الألمان ثانية..فليحصدوا ما زرعوا)! وعلى عكس الزملاء الذين طرحوا أسئلة خاصة بموضوع الندوة، فقد غامرت بسؤال هو خِيطَ من (طراطيش الكلام) الكواليسي، فقد تساءلت ( إذا كنّا اليوم نتحدّث عن سرقة آثار بفعل سياح أجانب، فإن السؤال المطروح على حضرات المسؤولين، هو عن درجة تواطؤ بعضهم و تسهيلهم لهذه الجريمة؟ وما الذي فعلوه بعد قضية فروبينيس؟ من حق الرأي العام أن يفهم. وكانت المفاجأة، فقد اضطربت القاعة، وأقنعنا المحاورون ببعض الوقائع الشحيحة، بلفلفة الموضوع، فيما رفضت وزيرة الثقافة الجزائرية، خالدة تومي، أي تعليق!

البحث في كومة قش

* بدأنا البحث في أرشيف وزارة الثقافة، حيث حصلنا على معلومات حول اتّفاقية موقّعة بين الدولة الجزائرية و مخبر ألماني بحثي باسم (فروبينيس)، الاتفاقية شملت طلبًا لـوضع خريطة أثرية لأكبر محمية سياحية جزائرية تمتد على مدى أكثر من 80 ألف كيلومتر مربع، وتدعى (تاسيلي نادجر)، لكن الاتفاقية إيّاها قادت إلى سرقات متكرّرة لآثار لا تقدّر بثمن، كما أن الجانب الألماني لم يفِ بواجبه، إذ لا تتوفّر للدولة حاليًا أي خريطة أثرية لهذه المحمية. أكثر من هذا فإن المسؤولين عن متابعة الاتفاقية الكارثية خرجوا من ثوب العمل الرسمي، إلا أنّهم مازالوا ينشطون ضمن جمعيات أهلية لحماية التراث، دون أن يحتوي أرشيف الوزارة، على أي تبرير منهم لكيفية صرف الاعتمادات المالية المخصصة للمخبر الألماني، ولا جَرْدَة نتائج. والأكثر من هذا أن الكل في الوزارة يعطيك الانطباع بأن (الملف قد طوي). وكان غريبًا أن يحاول البعض إقناعك بأنّه من الطبيعي أن تموّل الحكومة الجزائرية برنامجًا لسرقة آثارها! وأن يتم هذا البرنامج في أصعب سنوات الفتنة الأهلية! وأن لا يحاسب أحدٌ في جريمة سرقة أثرية يدينها العرف وكل القوانين.. شيء مّا وشى بأن الأمور ليست على ما يرام.

رحلة في أعماق الصّحراء

ما وجدناه في الوزارة لم يقنعنا، وكان علينا أن نحزم الحقائب باتّجاه الجنوب الجزائري، لمواصلة بحث مضنٍ استمر شهورًا، والذي حصل أن (مؤسسة الشروق) التي أعمل لحسابها قد وافقت على مغامرة البحث في تلك المجاهيل، وخلال ثلاث ساعات من الطّيران كنّا في مطار مدينة (جانت) بعيدًا عن العاصمة الجزائرية بحوالي 1700 كيلومتر.

(التاسيلي نادجر) المذكورة في أرشيف الوزارة كانت أكبر من كل توقّع، فهي منطقة (كوكتيل طبيعي) لمختلف أنواع التضاريس، تمتد عشرات آلاف الكيلومترات في حضن الصّحراء، وبها من الآثار ما لا يخطر على بال،إذ أنّها تحوي شواهد من كل الحقب التاريخية والما قبل تاريخية، وبحكم قلة عدد سكّانها، وهم بضعة آلاف، فإن الآثار مازالت كما تركها الإنسان الأوّل، بكامل عذريتها، في حراسة لا أحد.

سألنا مدير المحمية، السيد حسين عمبيز، وهو باحث شاب، فبدأ بوضع بعض النقاط على الحروف، ملتزمًا واجب التحفّظ بطريقة مثالية. حسين أخبرنا أنه إثر توليه مهامه قبل سنوات قليلة، لاحظ أثرًا للاتّفاقية المذكورة، وعلم أن المخبر الألماني قد أنشأ خريطة معلوماتية بالكامل لأكثر من 3000 منطقة أثرية بالمحمية، النقاط حدّدت وفق النظام الدولي لتحديد الموقعGPRS وهي على درجة فائقة الدقة، إلا أن المخبر الألماني لم يسلّم الخريطة إلى الحكومة الجزائرية، وهرب بها، مع كمية هامة من القطع الأثرية. جريمة لم تتابع قضائيًا لوجود بندٍ لم يعرف أحد كيف تسرّب للاتّفاقية، ترخّص الحكومة الجزائرية بموجبه لـ (إخراج القطع الأثرية خارج أرض القطر لغرض علمي)، وإذن فإن كامل المسروقات قد قدّمت على أنها (مخرجات لغرض علمي)، ولم تعد إلى الآن.

القضية لم تتوقف هنا، فإن (الباحثين) الألمان عادوا للجزائر ثانية، لاستئناف بحثهم! وبدون (الرخصة البحثية)، التي يفرضها القانون الجزائري على أي نشاط مماثل يقوم به أجانب، فما كان من المدير الشاب سوى توقيفهم باستدعاء قوّات الأمن، ومطالبتهم بإرجاع كافة المسروقات. لكنه تلقى بعد ذلك، بلاغًا رسميًا من مسؤوله الأعلى بوزارة الثقافة، يطالبه بـ(تسهيل مهمة الباحثين و معاملتهم كسياح) بل نصّ البلاغ على تحذير شديد اللّهجة من أي (عرقلة) قد يقوم بها المعني لعمل هؤلاء، وتهديد علني بفصله عن عمله إذا ما حدث ذلك! وبإمكانكم تخيّل نفسية الرجل حين يطالبه مسؤوله بتسهيل مهمة لصوص يسرقون محمية وضعتها حكومة البلد في عهدته.

حاولنا الاستفسار عن علاقة محتملة بين كون المخبر الذي وضع الخريطة إيّاها ذا انتماء ألماني، وبين الصّدفة التي جعلت من غالبية مهرّبي الآثار الجزائرية من جنسية ألمانية أيضًا، خصوصًا أن الرأي العام الجزائري قد صُدِم للسهولة البالغة التي يتحرّك بها هؤلاء اللصوص داخل الصحراء، بطريقة من يتجوّل داخل بيته، وكأنّهم يمتلكون خريطة تفصيلة لكل نقطة في الصّحراء... المدير الشاب استعصم بالصّمت.

وقائع جاسوسية أخرى

* مباشرة بعد العودة من مدينة (جانت) نُشِر التحقيق المدعّم بالصور والوثائق والتواريخ، الذي يتساءل عن معنى تورّط مسؤولين نافذين في حماية مهرّبي آثار، ويشير بالأحرف الأولى إلى أسمائهم، ويحاول إحصاء بعض المسروقات..وكانت ضجّة! تحرّك نواب مطالبين وزيرة القطاع الثقافي بكشف مستورها، وتحرّك آخرون لاستدعائها إلى جلسة استجواب علنية، و تحدّث آخرون عن نية مفاتحة الرئيس في القضية! وهذا كله ليس أهم ما في الموضوع!

الأهم،أنّنا تلقيّنا سيلا من الاتّصالات التي كشفت الملامح الأولى لقضية غاية في الخطورة، إذ أن الاتفاقية البحثية وقّعت في أشد لحظات الفتنة الأهلية الجزائرية، سنة 1994، وفيما كانت الحكومة الجزائرية تمارس التسريح الإجباري على آلاف من العمّال، لعجزها عن تسديد أجورهم، وتقترض لتطعم شعبًا يذبح على مرأى العالم، فقد بدا غريبًا أن توقّع اتفاقية بحثية لاكتشاف الآثار، وبدا أغرب أن تكون منطقة البحث أنسب مكان لرصد نشاط نووي غير سلمي كانت (جهات أوروبية) تتّهم به الجزائر! وبدا غير مفهوم أن الهيئة البحثية قد نصبت أجهزة استشعار يمكن استعمالها في عمليات الرصد النووي لا الأثري! وبدأت الشكوك تتوارد حول كون المؤسّسة البحثية قد اخترقت لتتحوّل إلى واجهة استخباراتية تمارس الجاسوسية لصالح أجهزة لم تعلن رسميًا للآن، وكون هذه الواجهة قد تلقّت عونًا من جهات جزائرية لأسباب غير معروفة، ولكن يمكن افتراض بعضها، إذا أُخِذَ بعين الاعتبار حقيقة أن الدلائل على الأرض، تساعد على الظن بأن الخريطة إيّاها ربّما قد وضعت مرارًا بيد مافيا دولية لسرقة الآثار، يقودها ألمان، فهذا هو التفسير المنطقي الوحيد لكون أفراد هذه الجنسية وحدهم دون غيرهم يستطيعون التحرك على أرض الصحراء الجزائرية بنفس مهارة سكّانها، وربّما أحسن.

وهنا يغدو من الطّبيعي الحديث عن (شبكة متكاملة): مخبر علمي كواجهة استخباراتية محترمة، طرف أجنبي يهمّه التأكّد من الوضع النووي لبلد قارب السّقوط في قبضة العصابات الإرهابية، وطرف محلّي يتوفّر مثله في كل شعب، أي طرف يستطيع بيع جلده إذا قبض الثمن، طرف سهّل عملية إعداد المافيا الأثرية لخارطتها في أحسن الظّروف، فأعطاها أنجع وسيلة للتحرّك طمعًا في ثمن أو رغبة في المشاركة بالغنيمة الضّخمة للمنجم الأثري المفتوح على الهواء.

الشكوك تكاثرت، والملف ازداد اتّساعًا، وضغط أحد النوّاب، مطالبًا الوزارة والوزيرة بملف مكتمل عن الفضيحة، وعقد اجتماع مغلق داخل أسوار الوزارة، تم فيه إشعار المسؤولين بأن الفضيحة التي أخذت بعدها الأمني بالكامل، قد صارت ( من صلاحيات المسؤول الأوّل بالوزارة) أي الوزيرة خالدة تومي شخصيًا، التي تعهّدت بالمضي في الملف إلى ما لا نهاية.

رؤوس ستطير

* غضب بعض نوّاب البرلمان الجزائري تصاعد بمضي الوقت، وارتفعت أصوات مطالبة بالكشف عن (القائمة الكاملة) للمتورّطين، وعن أسباب (التسهيل) الذي قدّموه للأجنبي، وعن حجم الضرر الأمني الذي حاق بالبلد، وعن أسباب عدم محاكمتهم للآن، وعمّن يحميهم.... ولأن الدورة التشريعية الربيعية قد انتهت، فقد برمجت جلسة استجواب علنية لوزيرة الثقافة الدورة المقبلة، استجواب يتوقّع مراقبون أن يكون من بين أسخن ما مرّ على المنصّة التشريعية الجزائرية، ويتضخّم التوقّع لرؤوس ستطير، و(فضائح أدهى) ستكتشف، وموعدنا بعد أشهر قصيرة لمتابعة بقية الحكاية!