ناصر الدين الأسد لـ«الشرق الأوسط»: لم أنقض آراء طه حسين عن الشعر الجاهلي ولكن عملت على إضعافها

مؤسس الجامعة الأردنية لـ«الشرق الأوسط»: مهما نستعمل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وانظمتها فان كل ذلك لن يكون من عوامل النهضة العربية

TT

من الصعب الاحاطة بالمنجزات الادبية والفكرية والتعليمية للدكتور ناصر الدين الاسد سواء في مجال الشعر او تاريخ الادب ونقده او البحث العلمي والدراسات اللغوية وتحقيق الكتب التراثية فضلا عن الترجمة اضافة الى كونه مؤسس عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية في الاردن والخارج فقد اسس وترأس الجامعة الاردنية ثم شغل منصب سفير فوزير مؤسس لوزارة التعليم العالي ثم الرئيس المؤسس للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية.

ينتمي ناصر الدين الاسد الى الجيل الذي اعقب رواد النهضة الفكرية من امثال طه حسين وعباس العقاد وامين الخولي وغيرهم وقد نشأ كما يقول المؤرخون لحياته الادبية ليكون شاعرا متأثرا بنشأته البدوية غير ان مساره العلمي من جانب وتسارع الاحداث الحرجة في عصره جعله يولي قضايا البحث العلمي والدراسات الادبية التاريخية اهتمامه الاول: فغلبت عليه روح البحث والتاليف واقتصر نشاطه الشعري على تجربته الخاصة لا يفصح عنه الا في مناسبات معينة.

«الشرق الاوسط» اجرت معه هذا الحوار:

* كان اول مؤلفاتكم الادبية حول الشعر الجاهلي، وكان بحدود معرفتنا اشبه بالرد على طروحات عميد الادب العربي طه حسين في كتابه «في الادب الجاهلي»، فهل كان هذا الامر مقصودا، وما هي ابرز الخلافات في رؤيتكم للشعر الجاهلي ورؤية طه حسين؟

ـ ذهب كثيرون ممن قرأوا كتاب «مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية» الى ما ذهبتم اليه من انه ردٌّ على الدكتور طه حسين وعلى كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي طبع سنة 1926م وكان في اصله محاضرات القاها قبل سنة من طباعته على طلبة كلية الاداب بالجامعة المصرية، ثم عدّل بعض ما ورد فيه وزاد عليه في طبعته الثانية التي صدرت سنة 1927م وتوالى صدورها مرارا. بل ان الدكتور طه حسين نفسه ذهب الى هذا الرأي في البدء وظنّ انه ردّ عليه.

ولكنّ الحقيقة ان هذا الكتاب كان تصويرا للحياة الثقافية العربية في الجاهلية من جوانبها المختلفة، وخاصة ما يتّصل منها بمدى شيوع الكتابة وانواعها وادواتها، وموقف الرواة من نقل الشعر الجاهلي وتوثيق هؤلاء الرواة، وتفنيد كثير من الروايات والاحكام التي انتشرت في كتب التراث عن الرواة وعن نحل الشعر الجاهلي ووضعه وتقديم مقياس اقرب الى الدقة لمعرفة الصحيح من الموضوع في هذا الشعر.

وكان لا بدّ لكل هذه الموضوعات ان تتضمن من التوضيح والشرح ما يقلّل من شان آراء الدكتور طه حسين التي وردت في كتابه الاول ويضعف نظريته عن الشعر الجاهلي. وقد استعملت كلمتي «يقلّل» و«يضعف» هنا ولم اقل «ينقض» آراءه ونظريته وذلك لان الشعر الجاهلي الذي وصل الينا في جملته، او في مجموعه، شعر صحيح اصيل، ولكن فيه شعرا موضوعا يتمثل في ابيات ذكرها النقاد القدامى او قصائد واضحة الوضع والزيف، وكذلك اختلف بعض الرواة في نسبة قسم من الشعر الصحيح الاصيل الى قائله، ولكن ذلك لا يجعله من الشعر الموضوع، وانما هو شعر قاله شاعر جاهلي من الشعراء الذين اختلفوا في نسبته الى احدهم لاسباب ادبية واجتماعية لا مجال لذكرها هنا، وان كنت فصلت القول فيها في الكتاب.

اما الرد على آراء الدكتور طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» ثم في «الادب الجاهلي» فقد استوفاه عدد كبير من الذين تصدوا له منذ صدور كتابه سنة 1927م واستمروا في ذلك سنوات طوالا، سواء اكانت ردودهم في مقالات ضافية في الصحف والمجلات ثم جمعوا بعضها في اسفار ام كانت ردودهم في كتب الفوها ابتداء وكانت ردود بعضهم علمية منهجية وجاءت ردود اخرين دون ذلك حافلة بالتهجم.

* ماذا كان رد فعل طه حسين وانتم من القريبين اليه بل ومن المعجبين به او من تلامذته كما تقول بعض المصادر، وهل صحيح انه غضب ولم يحتمل نقد آرائه؟

اللقاء مع طه حسين ـ حين صدر كتابي في صيف عام 1956م كان الدكتور طه حسين في رحلته المعتادة في اوروبا، وبعد عودته اتصل بي سكرتيره فريد شحاته واخبرني انه يقرأ للدكتور طه كتابي وانه يتوقع ان يتصل (الباشا) بي قريبا، وهذا ما حدث، اذ فوجئت ـ بعد نحو اسبوع ـ بفتح باب مكتبي في الادارة الثقافية بجامعة الدول العربية ودخول فريد شحاته يقود الدكتور طه حسين. وكان حينئذ رئيسا للجنة الثقافية بالجامعة العربية، وكنت موظفا في اول عهدي بالادارة الثقافية بالجامعة، فرحبت بالاستاذ الجليل، وما كاد يجلس حتى بادرني بهجوم عنيف نال من كتابي ومنهجي وانتقص من علمي بأغلظ الالفاظ مع لهجته الساخرة المعروفة عنه ولم انبس بحرف واحد، وخرج فجأة كما دخل.

وبعد نحو اسبوع دخل مكتبي ـ في قصة طويلة سابقة لدخوله ـ وسألني ان كنت ما زلت غاضبا فتشجعت وقلت: اشدّ الغضب فطيب خاطري بكلمات رقيقة واثنى على الكتاب وعليّ.

* قرأنا لك شعرا جيدا كتبته في بداية حياتك الادبية فما الذي حال بينك وبين الاستمرار؟ وما هي وجهة نظرك في الشعر الذي ينتشر هذه الايام؟

ـ الشعر ـ بالاضافة الى انه موهبة ـ هو نمط حياة يتطلب من قائله ان يهبه حياته كلها او جلّها فهو بهذا المعنى اناني لا يطيق الشريك وقد شغلتني اعباء الحياة والمناصب العلمية والتأسيسية والسياسية التي تولّيتها عن ان اهبه نفسي كما يجب ان يكون عليه شأن المحبين ولذلك جاء بعض شعري قبل ان ادخل في خضمّ تلك المناصب والاعباء او بعد ذلك في اوقات الصفاء التي كنت اختلسها وافرغ فيها لنفسي لاعبر فيها عن خوالجها ولما ضاقت تلك الاوقات تركني الشعر بل اكاد اقول هجرني وان كنت أُحسّ بأنني ما زلت متعلقا به وفيّاً له اشتاق اليه واتمنى عودته وما احلاها.

اما هذا الشعر المنتشر هذه الايام فما اكثر الشعراء وما اقل الشعر.

* نظمت الشعر وكتبت في النقد والتاريخ والابحاث المختلفة التربوية والاجتماعية وتقلدت العديد من المناصب السياسية من سفير الى وزير واسست العديد من المراكز التربوية والبحثية مثل الجامعة الاردنية ومؤسسة ال البيت فأي المناصب كانت احب اليك؟ ـ اما الكتابات والمؤلفات فكلّها اثيرة لديّ عزيزة عندي وتشبيه الكتب والبحوث بابناء المؤلف تشبيه قديم معروف، ولذلك يصعب عليه تفضيل احد هؤلاء الابناء على غيره وان كان الشعر لا يزال يملك عليّ نفسي ولكن اين هو الان بعد ان اختار الفراق او اضطر اليه. واما المناصب فأقربها الى نفسي ما توليت تاسيسها وانشاءها ثم رعيتها رعاية الاب لافراد اسرته، ودامت هذه الرعاية بين خمس سنوات لبعضها وعشرين سنة لاخرى بحسب اختلاف المؤسسة.

العلم والعرب

* هل لنا ان نقدم للقارئ خلاصة رأيكم في التعليم العالي في الوطن العربي، وانجح السبل ليكون رافدا للحياة وعاملا من عوامل نهضة الدول العربية؟

ـ هذا سؤال لا يجاب عنه باسطر قليلة فهو محتاج الى بسط القول فيه وبيان ما كان عليه التعليم عامة في بلادنا وما تعرض له من عوامل اخذت تفتك بجسمه فتكاً متدرجاً وئيداً خلال العقود الاخيرة حتى استشرى الداء وظهرت اثاره ونتائجه جليّة خلال العقدين الاخيرين وحين نعرف الداء نستطيع وصف الدواء.

وحتى لا يطول بنا الحديث وتتشعب مسالكه الخّص الجواب في الامور التالية: اولا: ان يكون كل من يتولى امور التعليم العالي (من الوزير ورئيس الجامعة وعميد الكلية وعضو هيئة التدريس) مؤمنا برسالته وبعروبة امته ودينها ولغتها ليرسي هذا التعليم على الانتماء والولاء بالاضافة الى توطين اخر ما وصلت اليه الوسائل الحديثة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وانظمتها وهذا الربط المتوازن بين الامرين هو الخطوة الاولى ولا يجوز الاقتصار على الشق الاخير بحجة التحديث.

ثانيا: ان يكون كل من يتولى امور التعليم العالي ـ وخاصة الوزير ورئيس الجامعة وعميد الكلية ـ له تصور واضح وممارسة عملية للحياة الجامعية والبحث العلمي وكل محاولة للاصلاح من تحت هذه المستويات ستكون بغير جدوى لان تلك المستويات العليا قادرة على تدمير اي اصلاح يكون دونها وعلى تثبيط عزائم العاملين فيه اذا كانت لا تؤمن به وفي رأيي ان الاصلاح ـ كل اصلاح ـ يجب ان يبدا من اعلى المستويات وخطأ كبير ان يكون المستوى الاعلى غير صالح ثم تبدأ بضياع الوقت والجهد في اصلاح المستويات الادنى واعضاء هيئات التدريس فريق منهم صالح ولكنه مثبّط العزائم مُحبَط بل مضطهد لان تلك المستويات العليا لا ترضى بالصلاح والتميز، وهذه الظاهرة تنطبق على مجالات متعددة من حياتنا العربية.

ثالثا: بالاضاقة الى الايمان برسالة الجامعة وعروبة الامة ودينها ولغتها والى التصور الواضح والممارسة العملية للحياة الجامعية والبحث العلمي لا بد ان يكون لمن يتولى امور التعليم العالي رؤية مستقبلية تمكنه من تطوير التعليم العالي من داخله تطويرا مستمرا ومتابعة احدث المستجدات العالمية فيه، دون ان تكون هذه المتابعة تقليداً ببغاويا ودون ان تكون مجرد «ترقيع» جزئي كما هو حادث الان عندنا.

رابعا: ولسنا في حاجة الى تأكيد ما تعب المخلصون في تأكيده خلال عقود من ان العلم لن يتأصل في اي بلد الا باللغة القومية وهذه كليات العلوم والطب والهندسة في جامعتنا العربية تعلم باللغة الانجليزية في المشرق وباللغة الفرنسية في المغرب العربي، منذ عقود بلغت عند بعض تلك الجامعات نحو عشرة عقود بحجة ان اللغة العربية عاجزة عن تلبية متطلبات العلم والتطور العلمي فماذا فعلت تلك الكليات خلال عقود من عملها؟ هل قدمت للامة او للبشرية ما يمكن ان يُعد اضافة الى مسيرة العلم او الحضارة؟ بل على النقيض تراها تدور حول نفسها لا تكاد تفعل شيئا الا تلك الكليات المتخصصة بالدراسات الانسانية والتي تدرس باللغة العربية فلها بعض المشاركة والاسهام الاصليين في الموضوعات التاريخية واللغوية والادبية وان كانت تلك المشاركات ادنى بكثير مما هو مؤمل منها.

هذه مجرد بداية لاطلاق التفكير في هذا الموضوع الخطير ولا يتسع المجال لشرحها وتفصيل القول فيها ولا لذكر عوامل اخرى اساسية مثل العناية بالبحث العلمي وتطويره.

شروط النهضة

* كيف يمكن في ما طرحته سابقا التوفيق بين اعادة بناء الشخصية العربية من الداخل والتمسك بالخصوصية الثقافية للامة مع الانفتاح على ثقافات العالم في سياق التطور التكنولوجي السريع في هذا العالم؟

ـ وهذا سؤال ايضا لا يغني في اجابته الاختصار اذ لا بد من تهيئة ذهن القارئ والسامع ونفسيهما لجو الموضوع بذكر شروط النهضة عند الامم عامة ثم بـ«خصوصية» هذه الشروط لتناسب تراث امم بعينها وتاريخها وطبيعتها.

ومن المهم ان نشير الى ان تصور بعضنا للنهضة دار في فلك استيراد «نتائج» العلوم والتكنولوجيا الحديثة وهذا ابقانا امة مستوردة مستهلكة والواجب ان نمتلك «اسباب» تلك العلوم والتكنولوجيا ومقدّماتها واصولها ومناهجها (وخاصة البحث العلمي الاساسي النظري) لنتولى بانفسنا ممارسة العلم وانتاج تطبيقاته (التكنولوجية) وتطويرها وابتكار الجديد منها والاضافة الى عالم المعرفة والمخترعات والمكتشفات والمشاركة الايجابية في الحضارة الانسانية فإن اسباب العلوم والمعرفة واصولها ومناهجها ـ وليس استيراد نتائجها ومصنوعاتها ـ هي التي تتفاعل في عقول الامة ونفوس ابنائها وتتكيف مع خصائصها وفكرها الديني والاجتماعي لتصبح جزءا منها تنميها وتطورها ومهما نستورد من اجهزة الحواسيب (الكومبيوتر) ومهما نستعمل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وانظمتها فإن كل ذلك عندنا لن يكون من عوامل النهضة لانه مهارات سطحية لا تقوم على اساس التعامل العقلي ولا التعايش النفسي معها لتطويرها عندنا اذا لم نملك اسبابها واصولها بالبحث العلمي في العلوم الاساسية او الدقيقة كما تسمى عند بعضهم ذلك التمازج والتفاعل بين المقدمات والاسباب والنتائج هو الذي ادركه العرب والمسلمون في ابان نهضتهم منذ القرن الثالث الهجري الى القرن الثامن (القرن التاسع الميلادي الى القرن الرابع عشر) ثم ادركته اوروبا سواء في عصر النهضة الاوروبية او في عصر التنوير.

وكل هذا ـ كما ذكرت يحتاج الى مزيد من التوضيح والشرح وضرب الامثلة والاستماع الى الرأي الاخر اذ بهذا الاستماع نختبر صحة رأينا ونعود عليه بالتوضيح او بالتعديل.