شخصيات فرنسية تروي همومها بمحكية لبنانية

حلقة مفقودة في مسرحية «ثعلب الشمال» ما بين النص والمتفرج

TT

مضحكة، مبكية مسرحية «ثعلب الشمال» لكنها لا تروي ظمأ، وتبقي مشاهدها حائراً على عتبة الاشكاليات التي تطرحها دون ان تمكنه من الولوج الى عمق اي منها.

والمسرحية التي تقدم حالياً على خشبة «مسرح مونو» وتستمر حتى الاول من الشهر المقبل، طريفة وجذابة من حيث اللغة والحوارات وهي مرتبكة ومربكة لجهة تنامي العرض وتقطيع المشاهد وترتيبها حتى تكاد تحسب ان تقديم بعضها او تأخيره او حذفه بالكامل لا يغير من امر الحكاية شيئاً.

والنص في الاصل فرنسي، ترجمه الى العربية عبده وازن وتمت لبننته من قبل الممثلين بالتعاون مع مخرج العمل نبيل الأظن، اللبناني المقيم في فرنسا منذ العام 1978. الذي جاء يعرِّف بالمسرح الفرنسي بمناسبة احتفالات السنة الفرانكوفونية.

المشاهد مضطربة في الترتيب، قائمة على حواريات ثنائية ونادراً ما تكون ثلاثية الاطراف ويتغلب الاداء الفردي للممثل الواحد، الذي يواجه الجمهور وكأنه بين مخاطبة للذات ومخاطبة للحضور يبني قصته وحيداً، مما يجعل الاداء «المتوحد» هو ركيزة العمل ولبه فبرز بعض الممثلين بامتياز وهوى البعض الآخر.

تسع شخصيات في الحكاية، وكل شخصية لها طعم لا يشبه غيره، ونمط في الحكي والقول والحركة والمزاج. إذاً ثمة نماذج انسانية ارادها المخرج متنوعة بعدد الادوار كي يقيم عالمه من هذا الاختلاف النافر الذي يثمر، في نهاية المطاف، عزلة قسرية تضرب طوقها حول الواحد تلو الآخر.

وداد والدة حكمت الداشر، هجرها والد ابنها من اول الطريق، وبعده تلاقت برجال عدة عاونوها في تربية الولد المتروك لها. وهي تعلقت بإبنها حكمت وتعذبت بحبه الى حد تمنى موته. وهي هنا صاحبة عاطفة، ذات ملامح مرضيّة يتأتى منها شرود حكمت وضياعه بحثاً عن ذاته. هذا الضياع الذي لا ينقذه منه حبه الجارف للصبية بوبيت، اليتيمة، المقطوعة من شجرة التي تتخلى عنه وتلحق بأنجلو الكهل الشريد السكير الهائم بدوره في الطرقات، بحثاً عن معنى لشيء ما. والدوامة التي تطبق على الام وابنها وحبيبته وسارق حبيبته، توازيها دوامة اخرى مختلفة عنها شكلاً وان شابهتها في قسوة الابتلاع، وذلك في قلب البيت المخملي للسيد والسيدة منكوز، حيث علاقة السيدة مع صديق زوجها سعد صريحة وبيّنة للزوج. اما المفاجأة فحين تكتشف المرأة ان زوجها وصديقه سعد يخوناها مع خادمتها تيريز.

أما الدوامة الاولى فتنتهي بفجيعة الام وداد اثر انتحار ابنها حكمت وعودة الاب الضال بعد الموت مباشرة ليكون الانهيار اكمل واقسى.

وفي المسار الموازي تترك مدام منكوز منزلها، اثر اكتشاف حقيقة الرجلين الخائنين ويتخلى الرجلان معاً عن الخادمة تيريز التي تجد نفسها مع سيدتها على قارعة الطريق.

وبينما تنتهي الحكاية الاولى بانفراط العقد تلتئم الحكاية الثانية بعودة السيدة الى زوجها، ورجعة تيريز الى قريتها.

وتتقاطع الحكايتان في آخر العرض، دون كبير ضرورة او فائدة الا التأكيد على فكرة ان التقاطع العابر بين الناس هو القاعدة، وان العلاقات النادرة التي تبقى هي صنيع الحاجة لا العاطفة الانسانية.

اعتمد المخرج نبيل الاظن في مشهدياته اسلوباً تصويرياً وفق سينوغرافيا اساسها تحريك الواح مربعة بيضاء يستطيع بواسطتها تغيير المساحات المستعملة وتعديل المناخات، مما جعل الخشبة رتيبة والالوان شبه معدومة، واهملت الناحية البصرية عموماً الا لحظة نزلت ستارة صغيرة من وسط المسرح واندس وراءها الزوجان منكوز كأنها غطاء لهما، ليؤديا، مشهداً يجمعهما في السرير. وهو سرير عمودي وهنا جماليته وميزته. اما اللحظة الثانية والاخيرة التي تكسر فيها حدّة هذا البياض السنوغرافي فحين ينفتح باب في خلفيته الخشبة يؤدي الى غرفة ينتحر فيها حكمت شنقاً.

الادوار النسائية تحتل الحيز الاوسع من المساحة الادائية، ولحسن حظ المتفرجين ان الاداء النسائي جاء متفوقاً وبارعاً نسبة لاداء متوسط او اقل في ما يخص الادوار الرجالية باستثناء انجلو (نقولا دنيال) الذي كان بديعاً في دور الشريد الطريف.

الام (رندة الاسمر) نضحت حيوية وليونة وقلقاً مما طغى على حضور الابن (جاد ابو جودة). وابدعت السيدة منكوز (تقلا شمعون) في تلوين الصوت وتنغيم العبارات من لبنانية وفرنسية، وتقمص روح المرأة المغناج المستهترة وانتزعت ضحكات الحضور طوال ادائها لدور ليس بالسهل، وهو ما قزّم حضور الزوج (رضوان حمزة) والعشيق (يوسف حداد) بينما لم تعط الخادمة تيريز (ميراي بانوسيان) فرصة اجلاء قدراتها إلا في الربع ساعة الاخيرة. اما حبيبة حكمت الصبية (مايا زبيب) فبدت تلقائية وعفوية وساذجة كما يمليه شرودها التسكعي في المسرحية.

انما ورغم ذلك يبدو ان اداء الشخصيات مجتمعة لا يقودك الى الابحار في فكرة ما، ويبقى رأس مال «ثعلب الشمال» اضافة الى الاداء، لغتها الحيوية اللاذعة والجريئة.

وبامكانك ان تبحث عن سبب او اسباب الجفاء ما بين المتفرج والعرض او حلقة مفقودة هي وليدة تهجين النص والفكرة على الارجح. فالمسرحية مكتوبة بقلم امرأة فرنسية وهمومها النسوية تجدها في فقد وداد لزوجها المخادع ومن ثم ابنها المنتحر، ثم الخيانة المزدوجة التي ارتكبت من قبل رجلين بحق السيدة منكوز وخادمتها. فالنساء ضحايا والرجال مخادعون ومراوغون دائماً لكن المخرج نبيل الاظن يضع قضية النساء في خلفية عمله، مقدماً على ذلك مشكلة الهوية والانتماء الشخصي للافراد.

وهؤلاء الافراد الذين تلبننت اسماؤهم وبعض سلوكياتهم وانطقوا المحكية اللبنانية، بينما مصائرهم بقيت محض غربية، ولا بد ان متفرجاً عربياً يستهجن ان يرى في عرض، يدّعي انه يصور واقع حاله، هذا الكم من الشريدين والقاطنين ارصفة الطرقات، بحيث يتساوى في ذلك، بحكم ظرف عابر او غير عابر، الاغنياء والفقراء. وكأنما الشارع هو المكان الذي ينتظر الجميع حين تقذف بهم اقدارهم خارج بيوتهم. وهو قلق يعرفه الفرد الفرنسي كهاجس معيشي، ولم يتم استيراده لبنانياً بعد.