المياه تبتلع مئة سنة من الفنون

"نيو اورلينز" عاصمة الجاز و"عربة اسمها اللذة"

TT

سمع زائر المدينة، قبل الفيضان، موسيقى الجاز تصدح في شارع "بوربون" حتى ساعات الصباح الاولى. وشاهد مهرجان "ماردي غراس" السنوي ذا النكهة الفرنسية، ومهرجان "جاز هيرتدج" ذا النكهة الافريقية.

باعها نابليون للأميركيين

* أسس الفرنسيون المدينة في 1718، عندما استعمروا ولاية لويزيانا، وهم اول من بنى سدا لمواجهة الاعاصير، وبعد ذلك بمائة سنة تقريبا، باعها نابليون بونابرت للاميركيين بخمسة عشر مليون دولار (لتمويل حروبه في اوروبا). ذهب الفرنسيون وبقيت صلصة "الرو"، ودجاج "كيجان"، وملاهي الرقص، ومنازل الدعارة، واندية القمار، وبعدها ظهرت صالونات اسمها "وعاء الدم" و"منبع الفجور". ثم جاء الشاذون جنسيا، وبدأوا مهرجان "الانحلال الجنوبي" السنوي في شوارع "الحي الفرنسي"، وقبل عشر سنوات، اصبح القمار رسميا، وسميت المدينة "لاس فيغاس الجنوب".

ثقافة افريقية

* وهاجر الى نيو اورلينز، قبل اكثر من مائة سنة، السود بعد ان عتقهم اسيادهم في مزارع القطن والتبغ، حولوا اغاني الحقول الى موسيقى الجاز. ثم ادخلوها الكنائس، ليرقصوا على انغامها وهم يرددون الاناشيد الدينية، وطبخوا الدجاج المقلي، والبامية، والسبانخ، وسموها "سول فود" (طعام الروح).

وهكذا خلطوا الاكل والموسيقى والروحانيات، فاختلطت الروحانيات المسيحية بالافريقية، ومعجزات المسيح بالشعوذة، وعجنت الترانيم بالموسيقى الصاخبة، و"سفر الخروج" بتجارة الرقيق (تناقضهما). يظهر ذلك جليا في مهرجان "جنازة الجاز" السنوي، في شوارع نيو اورلينز، الذي يخلط بين الجنازة والرقص. يحمل خلاله السكان تماثيل سوداء للمسيح، وصلبان سوداء، ويرسمون ملائكة سودا، ويوزعون الخرز الملون، ويحملون الاكفان الى مقابر رمزية، ويرقصون ويغنون، ويسمعون صوت آرمسترونغ يغنى: "ضعوا علي، عندما اموت، احسن ملابسي، واجمل أحذيتي، وقبعة انيقة، وساعة من الذهب".

موت الجاز؟

* صادف غرق عاصمة الجاز صدور كتاب "هل مات الجاز؟" الذي يتجرأ ويسأل عن مستقبل الجاز، ويحذر فنانيه ومعجبيه من ان الجاز سيموت اذا لم يتطور. ويشير الكتاب الى انواع الموسيقى الجديدة التي ظهرت مؤخرا، في عصر "سي دي" و"آي بود" و"ام بي 3". لم يمت الجاز، حتى الآن، لكنه انجب موسيقى "هيب هوب"، وانجب، قبل ذلك، موسيقى "روك آند رول". ولهذا، فان نيو اورلينز ليست فقط ام الجاز، لكنها ربما ام كل موسيقى اميركا. ولم يمت عمالقة الجاز في نيو اورلينز، لكنهم فقدوا منازل واقرباء واصدقاء. قالت، اخبار صحافية، بعد يومين من الاعصار، ان فات دومينو (77سنة) غرق، لكنها قالت، بعد يوم آخر، انه لم يغرق. هذا هو خليفة آرمسترونغ، ملك الجاز، واستاذ الفيس بريسلي، ملك "روك آند رول". كرر الفيس بريسلي مرارا كثيرة ان "روك آند رول ابن شرعي للجاز". واشاد بتراث السود، قبل خمسين سنة تقريبا، في وقت كانوا يعانون فيه من التفرقة العنصرية.

عربة اللذة

* واغرق اعصار "كاترينا" بعض العربات التي تسير على خطوط حديدية (ترام) او (ستريت كار)، وهي جزء من تراث نيو اورلينز، خلدها القاص الاميركي تنيسي وليامز في قصة "عربة اسمها اللذة". وتروي الحكاية ان ستانلي كرواسكي، بطل القصة المتحضر، قابل بلانش ديبوي، بنت الريف المثيرة، في "الحي الفرنسي" في نيو اورلينز، وبدأت بينهما علاقة جنسية تناقضت فيها حضارة المدينة في ولايات الشمال مع بقايا عصر الاقطاع في ولايات الجنوب. وكانت "بلانش" تستقل "عربة اللذة" لتقابل عشيقها، وتتخيل، وهي داخل العربة، اللذة القادمة. لكن "بلانش" وجدت ان السعادة التي تحصل عليها من اللذة قصيرة، مثل رحلة العربة. وعندما تحولت القصة الى فيلم سينمائي، ولعب مارلون براندو دور "ستانلي" صاحب الطاقة الجنسية الهائلة الذي لم يخيب امل "بلانش" ابدا. ومنذ ذلك الفيلم ارتبطت الفحولة باسم مارلون براندو، ونال جائزة بعد جائزة في افلام مثل "التانغو الاخير في باريس".

قطة على صفيح ساخن

* اشتهرت، بعد "عربة اسمها اللذة"، قصة "قطة على سطح صفيح ساخن" التي كتبها تنيسي وليامز بعد الاولى بعشر سنوات، واخرجت في فيلم سينمائي ناجح بطلته اليزابيث تايلور وبطله بول نيومان. وتدور أحداث القصة بالقرب من نيو اورلينز، خلال يومي سبت واحد فقط. توترت خلال اليومين العلاقة بين الزوج "بريك" والزوجة "ماغي" (اليزابيث تايلور) "القطة" التي غضبت بسبب اكاذيب وخدع عائلة زوجها، وبسبب فشل زوجها في تلبية رغباتها الجنسية (عكس بطل "عربة اسمها اللذة"). وادمن الزوج الخمر والقمار، ودارت حوله شبهات الشذوذ الجنسي.

قبل اعصار "كاترينا"، كان زوار نيو اورلينز يشاهدون المنزل الذي عاش فيه القاص تنيسي وليامز قبل اكثر من نصف قرن، ويعتقد ان القصتين، وغيرهما، هما من وحي السنوات التي عاشها هناك.

اصبح المنزل جزءا من التراث الرسمي الاميركي (لا يعرف مصيره بعد الاعصار). واصبح فيلم "عربة اسمها اللذة" جزءا من التراث الاميركي ايضا، وحفظت مكتبة الكونغرس النسخة الاولى من الفيلم، واصدرت ادارة البريد طابعا تذكاريا عنه.