مثقفون عرب هربوا إلى إسرائيل

حفيد الثائر عبد القادر الجزائري يعيش في "كيبوتس" ويشيد بالاستيطان

TT

صحافيون، روائيون، شعراء، من سلالات شعبية أو بورجوازية وأحياناً عروبية ثائرة، هربوا إلى إسرائيل منذ قيامها إلى اليوم، لأسباب بقيت في غالبيتها مجهولة وغامضة. الدولة العبرية قدمت قراءتها وتعليلاتها لما حدث ويحدث، لكن العرب نادرا ما كشفوا عن خفايا ابنائهم الذين فضلوا العدو على الوطن، ومنهم، من بذل جهداً مجنوناً كي لا يعاد إلى بلاده، وهنا غيض من فيض، حكايات هرب المثقفين العرب باتجاه إسرائيل، التي يشتم منها، في الأحيان روائح جاسوسية، وفي أحيان أخرى دلالات تقزز وتذمر من راهن أليم.

في ستينات القرن الماضي، كان وجيه غالي طالبا في كلية الطب في القاهرة، منتميا إلى جماعية يسارية، ومرتبطا بعلاقة حب عنيفة مع يهودية مصرية ماركسية، ولم تكن بدايات هذا الطالب والكاتب والناشط اليساري المنتمي لعائلة أرستقراطية تنبيء عن نهايته الدرامية فيما بعد.

وفي كتابه "من الأرشيف السري للثقافة المصرية"، الذي صدر عن "دار الطليعة" في بيروت عام 1975، خصص الناقد المصري غالي شكري بضعة سطور عن وجيه غالي.

أول مصري شجاع يزور إسرائيل

* يقول شكري عن غالي بأنه "كان ينتمي إلى إحدى الحركات اليسارية، ولكنه استطاع الهرب، إلى لندن. وهناك تلقفته إحدى (الجهات) وكانت تعرف ميوله الصحافية وموهبته الأدبية، واستطاعت أن تغريه بالسفر إلى إسرائيل، وعاد ليكتب مجموعة من التحقيقات المثيرة لجريدة (الصاندي تايمز) إلى جانب إسرائيل، وزيادة في التكريم والغواية نشرت له رواية في سلسلة "بنجوين" عن التعذيب في سجون مصر، وما زالت الرواية في المكتبات وعلى ظهر غلافها تعريف بوجيه غالي يقول انه أول مصري شجاع يزور إسرائيل ويكتب عنها بحرية كاملة". ويضيف شكري الذي وضع كتابه حين كان الذهاب إلى إسرائيل من المحرمات العربية "ولكن هذا الرائد الشجاع، وجد منذ عامين منتحرا في إحدى غرف البنسيون الذي يقيم به في لندن، وترك رسالة بخط يده اعترف فيها بخطيئة العمر، أشارت إليها الصحف الإنجليزية بصورة عابرة لان البوليس احتفظ بها، فلم تكن موجهة إلى احد بالذات".

غالي الذي كتب وانتحر

* وقبل عامين تذكر العرب غالي، وأنجزت كاتبتان من مصر ترجمة لروايته الوحيدة التي تحدث عنها غالي (بيرة في نادي البلياردو) والتي صدرت بالإنجليزية عام 1964، وهي اقرب إلى السيرة الذاتية عن ابن إحدى الأسر الأرستقراطية المصرية، يتحدث الفرنسية في البيت والإنجليزية في المدرسة، يسافر رفقة حبيبته اليهودية الماركسية إلى لندن، وتؤدي خيارات الراوي به إلى طريق مسدود انتهى في الواقع بانتحار غالي عام 1969 في لندن، وبعد انتحاره أصدرت المحررة الأدبية ديانا اثيل كتابا عن تجربتها معه بعنوان (بعد جنازة).

وفي حين يظهر اسم غالي، بين وقت وآخر، في دراسات عربية، كأحد الأسماء الأدبية العربية التي كتبت بالإنجليزية، فإن اسمه يتردد في إسرائيل، محاطا بكثير من الغموض، حول خيارات كاتب زار إسرائيل وأعجب بها، وكتب عنها، ثم انتحر، مع مزيد من الأسئلة: هل كان غالي مجرد صاحب وجهة نظر تجاه إسرائيل أم انه كانت له ارتباطات مع أجهزة أمنية إسرائيلية؟ أو أجهزة أخرى أو ما أطلق عليها غالي شكري "الجهات".

هل كان معارضا للنظام الناصري، إلى درجة الذهاب إلى دولة العدو والكتابة عنها بحماس؟ أم انه كان مجرد ترس في آلة يحركها أعداء بلده الأصلي؟، وهي أسئلة وان كان لدى إسرائيل إجابة عنها لم تعلن، فانه يتعين على المهتمين بمسارات الثقافة العربية البحث عن إجاباتهم لا انتظار الرأي الإسرائيلي في هذا الموضوع.

حفيد عبد القادر الجزائري في كيبوتس

* وغالي اسم من أسماء عربية كثيرة تنشر الصحف العبرية، بين فترة وأخرى، قصصا صحافية عنهم وتقدم أبطالها، على أنهم من المثقفين العرب أو تجري مقابلات مع بعضهم يعيشون في إسرائيل وتقدمهم ككتاب، أو صحافيين، أو إعلاميين.

وكل قصة تنشر تضاف إلى ما يمكن تسميته ملف "المثقفون العرب وإسرائيل"، وهو ملف كتبت صفحاته الأولى منذ سنوات طويلة، وربما بعضه يعود قبل تأسيس دولة إسرائيل نفسها عام 1948.

وبالإضافة إلى غالي، فإن هناك أسماء لمثقفين يعيشون في إسرائيل تثير قصصهم كثيرا من الصدمة خصوصا للقارىء العربي، فحفيد الأمير عبد القادر الجزائري، مثلا اختار العيش في كيبوتس في إسرائيل، تعبيرا عن إعجابه بالحياة التعاونية ـ الاشتراكية في هذا النوع من التجمعات الاستيطانية.

وأعلن عن ذلك للمرة الأولى عام 1994، ورغم أن حفيد احد أبطال الثورة الجزائرية، يرفض الحديث للصحافة، إلا انه يخرج عن صمته، أحيانا ليشيد بتجربة إسرائيل، ويؤكد التزامه اليساري الاشتراكي.

نبيه سرحان صار يهودياً

* ولعل اشهر المثقفين العرب الذين يعيشون في إسرائيل هو نبيه سرحان (له أسماء أخرى متعددة) وهو شاعر شعبي مصري، ينتمي لنفس قرية الكاتب المصري الشهير يوسف إدريس، اخذ يدعو للتطبيع مع إسرائيل بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967، وتعرض للاعتقال لعدة اشهر في مصر، سافر بعدها إلى ليبيا ومن هناك إلى اليونان، حيث اتصل بالسفارة الإسرائيلية، طالبا اللجوء السياسي، ليدخل إلى إسرائيل ويعيش فيها بصفته يهوديا ليبيا، كلما طلبت منه السلطات الإسرائيلية ان يعرف بنفسه.

وذهبت مع سرحان، إلى إسرائيل، زوجته المصرية، ولم يكن حتى أولاده يعرفون بحقيقة هويته العربية السابقة، وإحدى بناته أصبحت مغنية مشهورة في إسرائيل باسم (حياة سمير)، ولم تعرف بخلفية والدها العربية إلا قبل سنوات قليلة.

مصري في راديو إسرائيل

* وعمل ضمن الخدمة العربية في (راديو إسرائيل) التي كانت تشرف عليه المخابرات الإسرائيلية، وقدم سرحان برنامجا موجها أسمى نفسه فيه (ابن الريف)، يستهدف المصريين، قدمه سرحان بلهجة مصرية، وكان يفتتحه بعبارة شهيرة هي (يا أولاد مصر الطيبين).

وبعد نحو عشر سنوات من وجوده في إسرائيل، ظهر سرحان في مطار بن غوريون، بصفته مذيعا في راديو إسرائيل، ليغطي وصول الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات إلى تل أبيب، في زيارته التاريخية، وحسب ما روى سرحان فيما بعد فان السادات الذي كان يعرفه سابقا فوجئ بوجوده وقال له "افتكرناك في ليبيا، وها أنت تسبقنا إلى إسرائيل". ونشرت الصحف الإسرائيلية آنذاك تقارير عن "المصري الذي يعيش بيننا" بعد أن كشفت هوية سرحان العربية.

سرحان عميل أم صديق

* وقبل سنوات اختار سرحان أن يسكن في بيت يقع بين مستوطنة (جيلو) المقامة على أراضي مدينة بيت جالا الفلسطينية، جنوب القدس، وحي في مدينة بيت جالا يسمى (بير عونة). وأصبح يتردد كثيرا على مدينة بيت لحم، خصوصا بعد إنشاء السلطة الفلسطينية، وارتبط بعلاقات صداقة مع مسؤولين في السلطة الجديدة، وأصبح ظهوره في مركز شرطة المدينة عاديا، وكان لا يكف عن إلقاء النكات بلهجته المصرية العادية، وفي الليل يسهر مع أفراد القوة 17 الذين كانت لهم نقطة عسكرية بالقرب من بيته.

وفي احتفالات أعياد الميلاد في مدينة بيت لحم عام 1995، ظهرت ابنة لنبيه سرحان، أمام كنيسة المهد في بيت لحم، ترسم الأسماء على حبات الأرز مقابل مبالغ مالية، وقالت حينها إنها تعيش في الولايات المتحدة الاميركية وإنها تتردد على إسرائيل التي تحمل جنسيتها، وإنها تنتمي إلى عائلة متعددة الأديان.

وفي انتفاضة الأقصى تعرضت بيت لحم، مثل باقي المدن الفلسطينية إلى قصف من جيش الاحتلال، وأصبح المنزل الذي يعيش فيه سرحان بين خطوط التماس.