«الليل يقترب» في العراق

TT

مراسل «واشنطن بوست» في العراق يرسم صورة قاسية للحياة ما بعد الحرب

يرتكز هذا الكتاب، بشكل أساسي، على مراسلات انتوني شديد إلى جريدته واشنطن بوست عن العراق (وهي المراسلات التي حصلت على جائزة بوليتزر). وهو يترك القارئ يقع تحت حس مدمر بسبب الفجوة بين أهداف الحرب وما تلاها، وبين لغة خطاب الإدارة (الأميركية)، وبين الواقع

على الأرض. وعلى الرغم من أن كثيراً من الوقائع في الكتاب قد تكون مألوفة لقارئ الجريدة، إلا أن شديد نجح في صب كل هذا المعلومات

في قالب قصصي مدعوم بالروايات الشخصية الحقيقية للعراقيين.

في كتاب جديد يتسم بالبلاغة والوضوح، يسرد لنا أنتوني شديد مراسل «واشنطن بوست»، اللبناني الأصل، قصة رجل يدعى صباح، اتهم بالتخابر لصالح الولايات المتحدة الأميركية في مدينة الضلوعية، وقد أنحى أهل القرية باللائمة على صباح تسببه في قتل صبي ورجلين أثناء غارة قامت بها القوات الأميركية، وأصبحت قضيته أمراً يتعلق بالعدالة القبلية: فقد أوضح أقارب القتيل لأهل صباح أنه «إما أن يقتصوا من صباح، أو يتركوا أهل القرية يقتلون بقية عائلته». وحسب شديد، فقد قام والد وأخو صباح، حاملين في أيديهم، بنادق من طراز AK-47، باستدراجه إلى حوش الحديقة وقاموا بالتصويب عليه ثم أطلقوا النار. بعد ذلك قال الأب بأسى كبير لمراسل واشنطن بوست، «حتى النبي إبراهيم، عليه السلام، لم يبادر بقتل ولده»، ثم أضاف، «لم يكن لدي أي خيار آخر».

رواية صباح واحدة من القصص المأساوية التي يجدها المرء بين دفتى كتاب «الليل يقترب»، الذي يقدم صورة قاسية للحياة في عراق ما بعد الحرب، وفشل الحرب الأميركية على العراق وكان المدنيون من مواطني العراق العاديين هم الضحية، من فتاة الأربعة عشر ربيعا التي كانت تحاول النجاة من قصف بغداد، مروراً بأكاديمي يبلغ من العمر 62 عاما وعضو سابق لحزب البعث العراقي، إلى «مرافق» المراسل الخاص، ناصر مضاوي، الذي صار بعد ذلك زميلا وصديقا.

وفي نفس الوقت يقدم كتاب « الليل يقترب » ـ الذي يشبه إلى حد كبير كتاب لاري دايمون «الفوز الضائع»، الذي ظهر في هذا الصيف ـ حساباً قاسياً لفشل الإدارة الرئيس بوش في الاعداد وبشكل دقيق لعراق ما بعد الاحتلال، وكذلك للخطوات والحسابات الخاطئة عقب الاطاحة بصدام حسين.

يقول شديد في كتابه، «لم يكن هناك أبدا خطة حقيقية لعراق ما بعد صدام». «لم تكن هناك أبدا نظرة واقعية لما قد يحدث بعد السقوط. لقد كان هناك أمل وبات ايمانا، وأوهاما أصبحت قاتلة. ويتابع قائلاً: «مع وضع ثقتهم في المنفيين أمثال أحمد جلبي، واعتقاداً بـ «خطاباتهم التي تنادي بالتحرير»، افترض المسؤولون الأميركيون، بسذاجة، «بأن كل شيء سيوضع في محله بعد رحيل صدام. وكانت النتيجة أن عدداً قليلاً جدا من القوات قد أخذ على عاتقه مسؤولية تحقيق النصر، ثم تبعت ذلك عمليات السلب والنهب وانعدام القانون والفوضى. وحتى بعد شهور من سقوط صدام، كان لا يزال العديد من العراقيين يفتقدون الخدمات الأساسية لمعيشتهم مثل الكهرباء والماء؛ كما ازدادت الأسعار وزادت البطالة؛ وتحولت الحياة اليومية للعديد من الناس إلى حقل ألغام خطر.

وحسب شديد، كانت العواقب السياسية لأعمال العنف المستمرة أشد وأخطر. حتى هؤلاء الذين سرهم نبأ سقوط صدام، والذين أعدوا أنفسهم للأفضل مع وجود الأميركان، بدأوا يتساءلون فيما بينهم عن سبب فشل الولايات المتحدة الأميركية، أكثر الأمم قوة على وجه الأرض، في استعادة النظام. إن الوضع هذا يمكن تلخيصه بالشكل التالي: «لقد دام حكم صدام 35 عاماً، واستغرق زمن الاطاحة به على أيدى الولايات المتحدة أقل من ثلاثة أسابيع، ونسبيا قضى القليل من جنوده نحبه في الهجوم. فكيف يمكن لهؤلاء الأميركان أن يكونوا ضعفاء لهذا الحد عقب السقوط؟».

ومع استمرار أعمال العنف من أسابيع إلى شهور، تحول الاحباط إلى مرارة واستياء للحد الذي وصل معه العديد من العراقيين إلى القول ان الأمر برمته كان بمثابة «غفلة ضارة أو ضرر في غفلة من الزمان من جانب الولايات المتحدة. وعادت ذكريات دعم إدارة الرئيس ريجان لحكومة صدام ابان الحرب العراقية الايرانية، بالإضافة إلى الشكاوى من العقوبات التي دعمتها الولايات المتحدة الأميركية والتي لم تحصد سوى المدنيين.

لم يكن إعلان الامم المتحدة الرسمي في مايو 2003، الذي منح للولايات المتحدة وبريطانيا سلطة رسمية كقوى محتلة في العراق، شيئاً مسعفاً. فمصطلح «احتلال» يستحضر في الذهن ما تلى الحرب العالمية الثانية ورؤية تزعمتها الولايات المتحدة للتعاون مع أناس مثلهم يشكلون مصيرا مشتركا. أما بالنسبة للعراقيين، ولغالبية العرب، فالكلمة تؤثر في وجدانهم وذاكرتهم الجماعية، وتذكرهم بسجل اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط»، وفلسطين، والاحتلال الاسرائيلي للبنان.

وفي الواقع، ومع مرور الشهور واستمرار تنقل المراسل شديد عبر شوارع بغداد المتقلبة، والأكثر اضطرابا في القرى والبلدات الصغيرة، فقد شهد بذور تفتح التمرد عند قطاعات كبيرة من السكان. ومع وجود فراغ في السلطة حدث عقب سقوط الحكومة المتأرجحة لعقود وقرار الولايات المتحدة حل الجيش العراقي، ظهر زعماء إسلاميون متحمسون مثل مقتدى الصدر، وجماعات يائسة أخرى، بما فيهم مؤيدو صدام حسين، وقوميون عراقيون، واسلاميون متطرفون ومشاغبون أجانب، والتقوا معاً تحت راية المقاومة.

«وبدلا من أن يتغير العالم العربي من خلال العراق» كما كانت أمنية قادة أميركا، سادت مشاعر الغضب والاستياء.

ورغم ذلك، يرى شديد أن الانتخابات التي أجريت في يناير (كانون الثاني) كانت بارقة أمل وعلامة تشير إلى أن بعض العراقيين يرفضون بعناد «تسليم بلادهم لقوى العنف والفوضى». ولكنه يلاحظ أن «الانتقام باسم الدين، والتسلح المتنامي، والطائفية المتصلبة، والتعصب، كل هذا قد عاد إلى الساحة مرة ثانية عقب الانتخابات. ويذكر أن قوات الشرطة والأمن العراقي كثيرا ما يندد بها كونها متواطئة أو خائنة، وأن الناس الأكثر وعياً وموضوعية في المجتمع العراقي، الذي يتكاثر يتوارون وراء بوابات من حديد أو يختارون المنفى».

وبالنسبة للعراقيين العاديين ـ الذين عاشوا وعاصروا حكم صدام حسين القمعي، والخسائر الفادحة للحرب العراقية الايرانية، وعمليات النهب في حرب الخليج عام1991وشدائد العقوبات الدولية ـ فإن غزو أميركا عام 2003 وحالة التمرد المستمرة لا تزال تمثل فصلا آخر على ما يبدو من معاناة بلا طائل.

وأما بالنسبة للهجمات الانتحارية والتفجيرات، فيقول في نهاية كتابه المميز: إن سفك الدماء في حد ذاته كان طموحا؛ لقد كانت طريقة قاسية وباردة ومحسوبة أسفرت عن تحقق الادراك بالفشل الأميركي. فقد نجحوا، بعبقرية باردة، في تعظيم الاحساس بالفشل الأميركي في عيون أغلب العراقيين، وفي هذا الصدد، في عيون أجزاء كبيرة من العالم».