كيف وأين يلتقي الإخوان المسلمون وبرنارد لويس

باحث تونسي يطرح أسئلة حارقة بالفرنسية حول الدين والسياسة في الساحة الإسلامية

TT

يتناول هذا الكتاب الرائع بكل المقاييس المشكلة التي تشغل العالم كله حالياً: أقصد مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة في الاسلام. وهو لا يتحاشى طرح الاسئلة الحارقة أو الحرجة من نوع: هل حقاً ان الاسلام دين عنف كما تزعم وسائل الاعلام الغربية بعد (11) سبتمبر وما تلاه؟ هل حقاً انه يختلف جذرياً عن بقية الأديان كما يزعم برنارد لويس وقسم كبير من الباحثين والمستشرقين والصحافيين الغربيين؟ هل حقاً انه يرفض التفريق بين الدين والدنيا أو بين الروحي والزمني على عكس المسيحية التي فرقت بينهما منذ البداية كما يزعم برنارد لويس ايضاً وعشرات المثقفين الآخرين بمن فيهم المثقفون العرب؟

بمعنى آخر: هل هو في جوهره دين مضاد للعلمانية والحرية في حين ان المسيحية دين يحبذ العلمانية ويسمح بها؟ وبكلمة اخرى، ولنقلها بالعربي الفصيح، هل هو دين التخلف والجهل والتعصب، في حين ان المسيحية هي دين التقدم والحضارة والتسامح؟

أسئلة عديدة يطرحها كتاب محمد شريف فرجاني. وهو يجيب عليها بكل جرأة وسعة اطلاع وقدرة على التحليل والتركيب والاستنتاج. وهو يخوض المعركة على جبهتين اثنتين: جبهة أصوليي الاستشراق وعلى رأسهم الثعلب العجوز برنارد لويس، وجبهة الاصوليين الاسلامويين من كل الانواع والاصناف وعلى عكس ما نظن فإن هذين التيارين المعاديين جداً لبعضهما البعض يلتقيان موضوعياً حول عدة اطروحات أساسية تخص الاسلام ويرسخان نفس الأحكام المسبقة والشائعة عنه في الشرق والغرب. وأولها اطروحة أن الاسلام دين ودنيا ويرفض الفصل بينهما على عكس المسيحية. فالاخوان المسلمون يقولون نفس الشيء عن هذه المسألة ولا يختلف كلامهم اطلاقاً عما يقوله برنارد لويس. هناك فرق واحد فقط: هو انه يعتبر ذلك علامة تخلف حضاري في حين انهم يعتبرونه علامة تفوق للاسلام على جميع الاديان!... فبما انه يشمل كل شيء من المهد الى اللحد فإنه أهم من غيره وأفضل كما يظنون.

كل القسم الأول من كتاب هذا الباحث التونسي الفذ مكرس لتفكيك هذه الاطروحة ونقضها من أساسها. من هنا تجيء أهمية هذا الكتاب التحريري للعقول والذي جاء في وقته. فالواقع انه من كثرة هيمنة هذه الاطروحة على الأوساط الثقافية وحتى الناس العاديين في الشرق والغرب كدنا نتوهم انها حقيقة مطلقة لا تقبل النقاش، هذا ناهيك عن المراجعة والنقد. فالاسلام في نظر هؤلاء دين شمولي، توتاليتاري، كلياني، لا يقبل اطلاقاً بالتمييز بين المجال الديني والمجال الدنيوي ناهيك عن الفصل بينهما. فلا تعذبوا أنفسكم اذن أيها العرب أو المسلمون ولا تحاولوا ان تتقدموا الى الأمام أو تتطوروا لان دينكم يرفض ذلك رفضاً قاطعاً. وبالتالي فكل محاولاتكم ستبوء بالفشل الذريع وما عليكم الا ان تستسلموا للمقادير وللتفسير القديم لرجال الدين وللحكم الثيوقراطي والانظمة الاستبدادية.

بل وحتى مكسيم رودنسون الماركسي، المادي، التقدمي، وقع في فخ برنارد لويس واطروحته الشهيرة (التي هي اطروحة المسلمين المحافظين ايضاً، ينبغي ألا ننسى ذلك). فهو ايضاً يقول بخصوصية الاسلام قياساً الى عائلة الأديان التوحيدية كلها. فهو على عكسها يرفض الفصل بين الدين والسياسة، أو بين القضايا اللاهوتية بحسب تعبيره والقضايا السياسية، هذا في حين ان اليهودية والمسيحية تقبلان بالفصل وبالتالي تسمحان بالتطور.

وهكذا أغلقت علينا الأبواب من كل النواحي وما عاد بالامكان الخروج منها. فما العمل؟ ما الحل؟ الحل، بحسب المؤلف، يكمن في النظر الى التاريخ المحسوس كما جرى في كلتا الجهتين: أي الجهة الاسلامية الشرقية، والجهة المسحية الأوروبية. وعندئذ نكتشف ان المسيحية فعلت نفس الشيء في المجتمعات التي هيمنت عليها، تماماً كالاسلام. ولم تقبل بالعلمانية وفصل الكنيسة عن الدولة الا بعد سلسلة من المعارك الفكرية والسياسية بل وحتى العسكرية. وبالتالي فلا خصوصية للاسلام فيما يخص هذه الناحية ولا من يحزنون. وكل اطروحة برنارد لويس، والاخوان المسلمين معه، تسقط من تلقاء ذاتها! وسبب تخلف المجتمعات الاسلامية حالياً لا يعود الى الدين في جوهره وانما الى الفهم الخاطىء للدين: اي الفهم الظلامي التوتاليتاري بالذات.

لننظر الى التاريخ الواقعي المحسوس، وبشكل مقارن ودقيق. صحيح ان الانجيل قال: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. ولكن هذا لم يمنع المسيحية من ان تقفز على السلطة السياسية عندما سنحت الظروف واعتنقها الامبراطور الروماني قسطنطينوس الكبير عام (330)م ثم اصبحت بعدئذ دين دولة في عهد كل الأباطرة والملوك، تماماً كالاسلام في عهد الخلفاء والسلاطين بدءاً من الامويين وانتهاء بالعثمانيين، بل وحتى الآن. ولم تقبل المسيحية ان تفلت السلطة السياسية من أيديها الا بالقوة وبعد الثورة الفرنسية التي أزاحت رجال الدين عن عروشهم، بل وحتى بعد انتصار الثورة الفرنسية وقيام النظام الجمهوري العلماني الجديد على أنقاض النظام الكاثوليكي الملكي القديم ظلت المسيحية تقاوم حركة التقدم والتطور لمدة مائة سنة اضافية: أي حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريباً. ولم تستسلم للأمر الواقع الا بعد ان شعرت بانه لم يعد هناك أي جدوى للمقاومة، بل وسوف تخسر كل مواقعها المتبقية اذا ما أصرت على معاندة حركة التاريخ والتقدم. ثم يقولون لك بعد كل ذلك: المسيحية هي دين العلمانية، أو هي الدين الوحيد الذي يسمح بالخروج من النظام الثيوقراطي القروسطي الظلامي، الخ..!..

هذا كلام مناقض لحقائق التاريخ المحسوس.. ولحسن الحظ فإن محمد شريف فرجاني يجد أنصاراً له في جهة الباحثين والمستشرقين الغربيين. فليسوا جميعهم من أتباع برنارد لويس وعقليته الجامدة ويقينياته القطعية. ومن بين هؤلاء المستشرقين المنفتحين والموضوعيين نذكر أوليفييه كاريه الاستاذ في جامعة السوربون بباريس. وكان قد نشر كتاباً عام 1993 بعنوان: الاسلام العلماني أو عودة التراث الكبير (للاسلام). وفيه يقطع بشكل واضح مع الاطروحة والتي تقول بأن المسيحية كانت منذ البداية وفي جوهرها ديناً لا علاقة له بالسياسة، ديناً يفصل بين الروحي والزمني بشكل واضح، وانها بالتالي هي التي مهدت للتطور العلماني والحريات الفردية في المجتمعات الأوروبية المعاصرة. أما الاسلام فهو على عكسها ثيوقراطي متخلف: أي لا يسمح الا بالانظمة الاستبدادية ولا يمكن للديمقراطية اطلاقاً ان تنتعش في ظله.

يقول هذا الباحث الفرنسي ما معناه: الاسلام كدين تسيَّس وبقوة بعد ثلاث عشرة سنة فقط من ظهوره (أي بعد وصول النبي الى يثرب). ثم انفصل عن السياسة بعد ثلاثة قرون لاحقاً لكي يعاد تسييسه أخيرا على يد الاخوان المسلمين ومن تلاهم من الحركات الاصولية أو «الجهادية» المعاصرة. أما المسيحية فمسارهما التاريخي كان مختلفاً. فهي لم تتسيس الا بعد ثلاثة قرون من ظهورها، ثم استمرت على ذلك عدة قرون قبل ان تنفصل عن السياسة من جديد بعد ظهور عصر النهضة والتنوير والحداثة.

وبالتالي، يستنتج أوليفييه كاريه، ان كلا الدينين كان سياسياً وبنفس الطريقة. ولا داعي للتمييز بينهما من هذه الناحية. وحكاية ان المسيحية دين علماني أو لا سياسي منذ البداية هي اسطورة لا تصمد أمام الامتحان التاريخي. وعندما تتطور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات الاسلامية فإنها ستصبح علمانية مثلها في ذلك مثل المجتمعات الأوروبية. وبالتالي فالمسألة مسألة وقت وارتفاع مستوى المعيشة وانتشار التعليم المستنير ليس الا.

ويؤيد هذه الاطروحة باحث فرنسي آخر غير مستشرق هو إيمانويل تود. ففي دراساته الأخيرة يقول بما معناه: كفوا هجومكم على العرب والمسلمين والاسلام والتعصب والتخلف، الخ.. فالعرب ليسوا كلهم متعصبين دمويين على طريقة بن لادن والزرقاوي وأشكالهما كما تتوهمون. وانما هم يعيشون الآن مرحلة العبور الحضاري الكبير وهي مرحلة انتقالية، مترجرجة، عسيرة، مليئة بالعنف والانفجارات البركانية. وكنا قد شهدنا نحن الاوروبيين، في العصور الماضية: عصور محاكم التفتيش والحروب الاهلية بين المذاهب المسيحية، ثم وصلنا بعدئذ الى شاطئ الامان واصبحنا مجتمعات هادئة، مسالمة، متحضرة بعد ان حلت مشاكلها الاساسية. وبالتالي فلا أحد احسن من أحد. والمسلمون، من عرب او غير عرب، سوف يصلون الى نفس النتيجة بعد ان يجتازوا هذه المرحلة الانتقالية الحرجة: مرحلة العبور الحضاري الكبير. وبالتالي فحذار من السقوط في فخ الاحكام العنصرية او الطائفية ذات الكليشيهات الواسعة الانتشار كأن نقول: العرب متخلفون لانهم من عنصر همجي يستعصي على النظام والتقدم. والمسلمون متعصبون لان دينهم في جوهره متعصب على عكس المسيحية واليهودية. فهذا كلام اولاد شارع لا كلام علماء ومثقفين. ثم ينتقل محمد شريف فرجاني الى مسألة اخرى اساسية ذات علاقة بالأولى هي التالي: هل الاسلام دين عنف منذ البداية وفي جوهره ومحتواه أم لا؟ هل يختلف من هذه الناحية عن المسيحية واليهودية وبقية اديان العالم كما يقولون؟ بمعنى آخر، وبكلمة لا لبس فيها ولا غموض: هل القرآن الكريم مسؤول عن اعمال العنف والتفجيرات التي ترتكبها الحركات المتطرفة حاليا سواء داخل العالم العربي ام خارجه؟

هنا ايضا نلاحظ ان الباحث التونسي (الاستاذ في جامعة ليون الثانية) لا يتحاشى المسائل الشائكة ابدا. وبكل صراحة ووضوح وبدون لف او دوران، نلاحظ انه يدخل في صلب الموضوع، ثم يخلص الى النتيجة التالية: القرآن الكريم كبقية النصوص الدينية والتأسيسية الكبرى ذو موقف مزدوج من قضية العنف. بمعنى انه يحتوي على آيات تحل العنف، وآيات تنصح بالسلم والابتعاد عن العنف. والسبب هو انه مرتبط بالظروف التاريخية التي عاشها النبي والمسلمون الاوائل. وهي ظروف كانت مليئة بالتحديات، ومحاطة بالخصوم والاعداء، لكن روح الاسلام تتغلب في القرآن الكريم وفي نهاية المطاف على روح العنف والعداء للآخرين. وبالتالي فهناك آيات تشرع العنف وآيات تشرع السلام وآيات تدعو للتعصب وآيات تدعو للتسامح والغفران. فبأيها نأخذ يا ترى؟ ان الثانية هي: اكثر من الاولى، كما ان الروح العامة للنص القرآني هي روح الرحمة والتسامح والمغفرة ولا يجوز اطلاقا ان نقلل من اهمية هذا البعد من ابعاده او ان نغض الطرف عنه كما تفعل الحركات الاصولية المتطرفة حاليا. فهذا الموقف يعتبر خيانة للقرآن الكريم وخروجا على جوهر تعاليمه ومقصده الأسمى، فلم تكن غايته اطلاقا العنف الاعمى او المجاني كما يفعل الزرقاوي الآن في العراق، حيث يستشهد في كل مرة بآية قرآنية مقطوعة عن سياقها قبل ان يذبح احد الرهائن الاجانب امام كاميرات التلفزيون! هذا مستحيل. هذه ليست روح القرآن ولا تعبر عن جوهره بأي شكل.

ثم يتهم المفكر التونسي برنارد لويس قائلا بأن رؤيته عن الاسلام تدعم رؤية الاصوليين المتعصبين وتشد من ازرهم، فهو يقول بما معناه: الاسلام دين عنف من اساسه. وهو قائم على الجهاد والقتال وتقسيم الارض المسكونة الى دار الاسلام ودار الحرب، وان الجهاد ينبغي ان يتواصل حتى تخضع البشرية كلها للاسلام. واما قبل ذلك فلا..

ويقول فرجاني بأن هذا الكلام لا اساس له من الصحة حتى ولو كان منتشرا في ادبيات الاصوليين والاخوان المسلمين بشكل واسع فمصطلح دار الاسلام /ودار الحرب لا أساس له في القرآن. ولو انكم فتحتم القرآن وقرأتموه كله لما وجدتم فيه اي شيء من هذا القبيل.

وبالتالي فهو مصطلح متأخر ولا مشروعية له. يضاف الى ذلك ان كلمة السلم او السلام واردة في القرآن 49 تسعا واربعين مرة، والآيات التي تدعو الى التسامح وعدم الاكراه في الدين واردة عشرات المرات.. فماذا نفعل بكل ذلك؟ هل نحذفه او نلغيه كما يفعل الزرقاوي وبن لادن والظواهري وكل من يحذو حذوهم؟ هل يحق لنا ذلك اذا كان واردا في صريح القرآن الكريم؟ الا يعني ذلك اننا نخرج على القرآن ونخون تعاليمه؟

لنستمع الى بعض هذه الآيات البينات: «يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين» (البقرة 208).

«وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله انه هو السميع العليم» (الانفال61).

«وقال يا رب ان هؤلاء قوم لا يؤمون. فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون» (الزخرف 88 ـ 89) الخ..

واما الآيات التي تدعو الى التسامح وعدم التعصب في الدين فهي عديدة ايضا. ولذلك نكتفي هنا بذكر بعضها: «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». (الكهف 29).

«لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم» (البقرة 256).

ومن اعظم الآيات التي تشرع التسامح والانفتاح الواسع في الاسلام الآيتان التاليتان: «يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير» (الحجرات 13).

«وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما اتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تخهاتف» (المائدة 48).

ويمكن ان نضيف اليهما الآية التالية الشديدة الاهمية والواردة ثلاث مرات في القرآن الكريم مع تغييرات طفيفة وأعتقد انها يمكن ان تؤسس للحوار بين الاديان او لاعترافها ببعضها بعضا على الاقل: «ان الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من أمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (البقرة 62).

ثم يردف البروفيسور محمد شريف فرجاني قائلا بما معناه: اما الآيات التي تدعو الى العنف او تشرعه فهي موجودة ولا داعي لانكارها. ولكنه عنف مشروط باستمرار: «فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين» (البقرة 191). «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين» (البقرة 190).

ثم هناك الآية الخامسة من سورة التوبة والتي يعتبرونها من اعنف الآيات ويدعونها لذلك بآية السيف، ومع ذلك نلاحظ انها تنتهي بالكلمات التالية: ان الله غفور رحيم! كما وتتلوها آية تدعو للرأفة بالمشركين ومعاملتهم بالحسنى: «فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ان الله غفور رحيم. وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون» (التوبة 5 ـ 6).

ثم يطرح المؤلف السؤال التالي: كتاب اليهود، التوراة، مليء بالعنف من بعض اجزائه، ومع ذلك فلا احد يقول بأن اليهودية هي دين عنف في جوهرها واصلها كما يقال عن القرآن او الاسلام! (انظر سفر تثنية الاشتراع، وسفر صموئيل الاول والثاني على سبيل المثال لا الحصر). وحتى كتاب المسيحيين، الانجيل، المشهور بالرحمة والتسامح لا يخلو احيانا من مقاطع تدل على العنف: «لا تظنوا اني جئت لاحمل السلام الى الارض، ما جئت لأحمل سلاحا بل سيفا: جئت لأفرق بين المرء وأبيه، والبنت وأمها، والكنة وحماتها، فيكون اعداء الانسان اهل بيته» (متى).

ولكن على الرغم من ان المقاطع العنيفة قليلة جدا في الانجيل على عكس التوراة والقرآن الا ان ذلك لم يمنع قسما من المسيحيين من ارتكاب المجازر باسم دينهم على مدار التاريخ القديم بشكل خاص. وبالتالي فالناس ليسوا اوفياء لنصوصهم الدينية على طول الخط ولا يتقيدون بتعاليمها بالضرورة. واحيانا يفسرونها في اتجاه السلم واحيانا يفسرونها في اتجاه العنف بحسب الظروف والمنعطفات التاريخية (انظر محاكم التفتيش في القرون الوسطى، وانظر المجازر الطائفية والحروب المذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت).

ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن الاديان الاخرى غير التوحيدية: كالبوذية والهندوسية وسواهما. فهي ايضا استخدمت من اجل الفتح وخوض الحروب لتوحيد الهند والخلاصة هي ان جميع الاديان تحتوي على مبادئ نبيلة وتدعو الى محبة الآخر. ولكنها في ذات الوقت لجأت الى القوة لنشر ذاتها والتوسع بقدر الامكان في شتى انحاء الارض وبالتالي فهناك المبادئ السامية من جهة وهناك التطبيق العملي على ارض الواقع من جهة اخرى.

وشتان ما بينهما! وهذا يعني انه ينبغي ان ننظر الى الدين داخل التاريخ وليس فوق التاريخ كما يفعل المؤمنون التقليديون. فهؤلاء يشكلون عن اديانهم صورة مثالية عذبة لا علاقة لها بالواقع. وهناك دائما فرق بين الدين كتنزيه وتعال او كروحانيات سامية ومبادئ اخلاقية رائعة وبين الدين كايديولوجيا سلطوية او سياسية هدفها التوسع على حساب الآخرين واخضاعهم. وكل الاديان تحولت في لحظة ما الى ايديولوجيا سلطوية، بل وقمعية. وهذا هو معنى دراسة الدين داخل التاريخ وليس فوق التاريخ.