الكتابة.. والبلاغة الإلكترونية

عدم استثمار الإمكانات الهائلة للكومبيوتر يكرس تأخر الثقافة العربية

TT

ينطلق سعيد يقطين في كتابه الجديد من افتراض يرى أن التحول الذي شهده الإبداع الإنساني من «الشفاهية» إلى «الكتابية» عبر قرون عديدة خلت، لا يشكل نهاية المطاف في بنية الوسائط الناقلة لجوهر ذلك الإبداع، بقدر ما مثل حلقة في مسار منزاح باستمرار، ولعل أوج هذا الانزياح هو ما تجسد في ما يمكن تسميته بالبلاغة الإلكترونية؛ حيث حلت «الصورة» و«الفضاء الشبكي» و«الكومبيوتر» و«البرمجيات«، محل الورق والطباعة والكتاب

يمثل كتاب: «من النص إلى النص المترابط»، حلقة فريدة في إنتاج الناقد المغربي سعيد يقطين، فهو أقرب إلى الكتاب العلمي منه إلى الدراسة النقدية أو البحث الأدبي الذي طالما اقترن بجهود الكاتب وإنتاجاته. وعلى ما يبدو فإن الباحث بإصداره لهذا الكتاب المخصص لعلاقة المعلوميات بالأدب، يسعى إلى إشاعة تصور مغاير لمقولة «الإبداع الأدبي»، تنقلها من نطاق «الكتابة»، بمعناها الورقي/ الطباعي، إلى مجال افتراضي تتعدد إيحاءاته ووسائطه، مابين الحرف والصورة والصوت، نظرا لارتباطه بجهاز متطور، هو الكومبيوتر، يتجاوز البعد الواحد الذي كانت توحي به الكتب المطبوعة، إلى نظام وسائطي متعدد الأبعاد والقيم والإمكانات.

لقد أضحت الثقافة الإنسانية عموما أوسع من أن تختزل في مفاهيم الإبداع الكلاسيكية التي حصرت العملية الإنتاجية في «المؤلف» الذي يكتب نصا لمتلق «مفترض» يكتفي بالاستيعاب الخامل. وبات «النص» نتاجا لتعاقد ضمني متعدد الأطراف بين منتج متعدد الكفاءات، ومتلق يضاهيه معرفة ومهارة.

بالطبع فإن النص لا يبقى له المعنى نفسه الذي امتلكه حين انطوى بين دفتي كتاب، كما لا تختصر فعالية المتلقي في المتابعة المحايدة لخطاب الكاتب من مبتدئه إلى منتهاه، وإنما سيصير مساهما فعالا في تحديد مسارات النصوص، وانتخاب روابطها وامتداداتها، إنه يكتسب ـ بتعبير سعيد يقطين ـ صفة المساهمة المنتجة، مما يحوله إلى مبدع من درجة ثانية:

> تتحقق إبداعيته من خلال مساهمته في العملية نفسها، حيث لا يبقى مكتفيا بمتابعة النص بعينه، وإنما «يكتب» النص بطريقته الخاصة وهو ينقر على الفأرة ويتحرك في جسد النص وفق اختياراته وإمكاناته، وبذلك يبدع نصه من خلال النص الذي يقرأ» (ص 243).

من هذا المنطلق يستنتج الباحث أن المعرفة الأدبية اليوم لم تعد رهينة القيم التقليدية في دراسة «النصوص»، ومن ثم فقد صار لزاما على دارس الأدب تحصيل نوع مغاير من الخبرات، يكون وطيد الصلة بـ «الوسائط التفاعلية» الجديدة، حتى يتمكن من بناء فهم يستوعب النقلة الهائلة التي تمت على مستوى التكوين النوعي للنصوص. وفي هذا السياق يستعمل سعيد يقطين، عبر أبواب الكتاب الثلاثة، توصيفات تحليلية من قبيل: «من التراث إلى العصر»، و«من النص إلى النص المترابط» و«من الشفوي إلى الإلكتروني»... وهي صيغ توحي كلها بـ«القطيعة» مع «المكتوب» والتحول إلى صيغ «الترابط» Hypertexte، المقترنة بالكومبيوتر التي «لا تتيح، فقط، التحرك بين النصوص اللفظية، ولكن أيضا الانتقال بين العلامات غير اللفظية، مثل الصوت، أو الصورة، أو الخريطة، أو اللوحة، أو الصورة الحية المتحركة» (ص 102).

وهنا نصل مع الناقد إلى صلب أطروحته في الكتاب، وهي ضرورة الانتقال من مفهوم «الكتابة» إلى مفهوم «الإنتاج/ البرمجة»، العملية التي تستتبع انتقالا آخر على مستوى التلقي من مفهوم «القراءة» إلى مفاهيم: «التجوال» Broutage و«الإبحار» Naviguation. وبهذه الطريقة لا تبقى طاقة الإبداع مرتبطة بمؤلف وحيد لنص ناجز بل بمنتجين متعددين لنصوص متحولة. وبناء عليه لن نكون بإزاء قيم «الانفعال» في عملية التلقي بقدر ما سنكون بصدد قيم «الفعل» ثم «التفاعل»، وهي القيم الأساسية في استراتيجية التعامل مع الكومبيوتر ومع البرامجيات والنصوص الإلكترونية.

من هذا المنطلق يشكل مبدأ «التفاعل» قاعدة الوعي الجديدة ببنية «النصوص»، وبوظائف «الإنتاج» وبقيم «التلقي»، حيث إن الجدل القائم بين الوسائط المختلفة (الصورة /الصوت/ الكتابة) في النصوص المبرمجة على الكومبيوتر، تفترض تعاقدا ضمنيا بين المنتج والمتلقي في تحديد الاختيارات، ونسج المسارات، وهي السمة التي تجعل من الترابط في الوسائل معبرا إلى التفاعل في بناء المعنى. صحيح أن الأجناس التعبيرية المختلفة من «شعر» و«قصة» و«رواية» و«مقال»... تبقى محكومة بضوابطها الأسلوبية المأثورة في النصوص المكتوبة، بيد أنها تكتسب تدريجيا قيما ومؤثرات بصرية وصوتية تجعل من وجودها الجديد، رهينا من جهة بجهاز الكومبيوتر، ومرتبطا من جهة ثانية باختيارات المتلقي وتفضيلاته، وسرعان ما ستطفو على السطح تسميات جديدة من قبيل «الرواية التفاعلية»Hyperfiction و«المسرح التفاعلي» Hyperdrama... تستقطب بالتدريج جمهورا متزايدا من المتلقين.

والنتيجة أن الكتاب بمعناه الكلاسيكي أضحى وسيطا محدود الأفق إذا ما قورن مع النشر الإلكتروني سواء عبر الأقراص المدمجة أو عبر شبكة الإنترنت، وفي هذا السياق يورد سعيد يقطين مجموعة من التجارب العربية الرائدة في هذا المجال من مثل تجربة «صخر» في نشرها للقرآن الكريم والكتب التسعة في الحديث النبوي، ومؤسسة «العريس» في نشرها لموسوعة الفقه الإسلامي، والمجمع الثقافي الإماراتي التي أصدرت الموسوعة الشعرية، وتجربة الوراق... وغيرها من الإصدارات الإلكترونية العربية التي فتحت المجال واسعا على آفاق مختلفة للبحت والتداول للنصوص الشعرية والنثرية التراثية والمعاصرة للأدب العربي، ومكنت من تسريع العثور على النصوص النادرة، وتقريب المسافات بين المبدعين والمتلقين في الأقطار العربية المختلفة حيث لا يتأتى في كثير من الأحيان التوصل في المغرب مثلا إلى دراسة أو رواية صدرت في سورية أو الأردن إلا بعد مرور مدد طويلة على إصدارها.

بهذه الكيفية يكون النص الإلكتروني قرين الحداثة، ورهانا أساسيا لدخول العصر، لا تقل وظيفته النهضوية عن وظيفة الطباعة قبل قرنين، ومن ثم فإن أي تباطؤ في استثمار الإمكانات الهائلة التي يتيحها، إبداعا وتوصيلا، لا يمكن إلا أن يكرس تأخر الثقافة العربية، ويعمق أزمتها. ذلك هو الدرس النقدي الذي سعى سعيد يقطين إلى إنفاذه بحماس وحرارة عبر فصول دراسته الطويلة والرائدة، تاركا الانطباع بأن الأفق لا يخلو من جهود واعدة، تستحق من القارئ العربي التوقف والعناية.