مشروع عالمي للسلطة في شكل شبكة انترنيت؟

الشرطي الدولي اختلف عن الشرطي القومي

TT

مفتاح الدخول إلى كتاب الدكتور فتحي المسكيني «الفيلسوف والأمبراطورية» يكمن في إعادة صياغة السؤال الذي فقد جدواه «من نحن؟» لنطرح بدلاً منه «ماذا نحن؟». ففي عصر اهتزاز فكرة الدولة القومية، وانكشاف الأساس الهش للانتماءات والهويات، أصبح الإنسان غريباً ليس عن الآخر الحضاري فحسب بل عن نفسه أيضاً.

نص الدكتور المسكيني مفتوح على أسئلة جوهرية في هذا الاتجاه، ومفتوح على أجوبة كثيفة. فهو يتبنى مقولة «دريدا»: بأن الفلسفة تصلح لطمأنة الأطفال. ويبني على هذه المقولة رأياً بأن دور الفلسفة هو طمأنة الجموع ما بعد الحديثة في عصر الموت التقني، الذي يتقوَّم به الفرد الذي أنتجته الحروب العالمية. فيجد نفسه لذلك بأنه المسلم الأخير، الذي هو رغم أنفه، فرد امبراطوري يتميز عن أقرانه بأنه من حاول تحويل الموت إلى أداة مقاومة، حين عمد إلى استعمال الموت التقني بوصفه أداة استشهاد ما بين بعد تاريخي وبعد قومي. هذا المسلم الأخير ابن شرعي للحروب الامبراطورية التي لم تكن الحروب العالمية غير مقدمات محتشمة عنها فحسب. ومن الخطأ أننا لا نزال نحاسب هذا المسلم في نطاق ثوابت الملّة التي يدعيها، مع أنه ظاهرة امبراطورية عالمية تفرض تحدياً عالمياً. لذلك علينا أن نفقه بأن التاريخ المصنوع من خوف لاهوتي من أن يكفر الناس، صار يحركه خوف من جنس آخر هو الخوف من الانقراض.

لفهم هذا المسلم الامبراطوري وطبيعة تصرفه، علينا أن نفهم الآخر الامبراطوري، أي أميركا، وحتمية المواجهة بين العولمة والعالمية. يفتح المؤلف نصه على سؤال أصبح مطلوباً لذاته، وليس فقط بوصفه فضولاً يفرضه العقل اليومي. «ما هي أميركا؟». فإذا كانت أوروبا رهينة نجاح اليونانية، فإن أميركا خضّت مفاعيل الخطابية الأوروبية المعهودة وأخضعتها إلى تحويل حاسم من أفق التعبير الرومانسي إلى التحليل الوضعي ففقد الإغريق نموذجيتهم، وانقلبوا إلى أمراض تبرأت منها العولمة ببناء لغة للتفكير على طريقة العلوم والتدرب على لغة إنجازية لا مكان فيها للفتوحات الأخلاقية. فما هو مثير حقّاً أن السمة الحاسمة في دلالة أميركا هي علاقة مفهومية وماهوية مرتبطة بالحرب. وعلينا أن نحلل طبيعة العلاقة بين أميركا والحرب. هل تكون أميركا هي التحقيق الكلي لماهية الحرب؟ أم أن الحرب هي التجلي القدري لماهية أميركا في أفق الإنسانية الحالية؟

تأسست أميركا على الحرب ضد السكان الأصليين. هذه الحرب غيّرت ماهية الحروب على نحو غير مسبوق، فليست نزاع أضداد، أو فضيلة بالمعنى الميكيافيللي، أو هيمنة بشر على آخرين لضرورة البقاء، أو حالة عرضية حيث يكون الأفراد أعداء عرضاً، أو مواصلة سياسة الدولة بوسائل أخرى. إن أميركا قامت بحرب من أجل نزع حق الساكن الأصلي في أرضه. فهي حرب بدائية معاصرة، وجدت في سيادة الذات الحديثة على الموضوع أساسها الأخلاقي. أبادت شعباً واستعبدت شعباً آخر ليقوم بعمران الأرض التي نظفتها على قاعدة الفردانية الأوروبية.

بعد انتهاء مرحلة التأسيس قررت أميركا تدمير الوطن، أي تدمير البدء الخاص بالعنصر الأوروبي الذي لا يكف عن البدء. فدخلت الحرب العالمية الثانية ليس بصفة جغرافية بل كقرار إزاء الموجود يتخذ من التقنية قدرة لتسخير الآخرين واستعمالهم بلا حدود. فأميركا التي «أوْرَبَت» العالم الجديد انقلبت إلى خطر حاسم على الوجود الماهوي لأوروبا. فهي لا تريد أن تدخل التاريخ بل تطرح نتيجة لفقدانها للتاريخ «وطنية» عالمية ذات خصوصية معولمة تحاول إقامتها بدلاً من عالم لا تزال تسعى لتدميره، أو تصحيره إن لم تستطع تغييره.

فإذا كان الرحَّل هم من اخترع الحرب ضد جهاز الدولة، فأميركا مجموعة من الرحّل على شكل مسطحات، والمسطح هو كل تعدد يقبل الوصل مع تعددات أخرى بواسطة التنويع والتوسع والغزو والقبض والوخز، لكنه لا يتألف من أسس وعقائد وأجهزة. لذلك لن نفهم أميركا بكتابة التاريخ، بل بكتابة الخارج الذي يتشكل ويمتد خارج سيادة الدولة لأنه لا يقبل أن يختزل في بنية الفضاء المخطط له الذي تنشر الدولة داخل حدوده انتماء هويتها.

تتأسس السلطة في أميركا من مجموعة من السلطات تنتظم بنفسها وتتوافق من تلقائها داخل شبكة، وتتميز بتعدد النزاعات، فالمنافسة قاعدة استقرار السلطة ومنطق توسعها. وهذه السلطة لا تقوم على السيادة بالمفهوم القومي بل على الإنتاجية. فالجمهور الذي يشكل المجتمع منتج، والسيادة لا تتمثل بضبط الجمهور، بل تتبلور بوصفها نتيجة الطاقات المنتجة للجمهور. وعلى ذلك فإن مبدأ الإنتاج المؤسِس يقود عملية التفكر الذاتي. بذلك ينتج مبدأ السيادة حدّه الداخلي الخاص المفتوح على مشروع توسعي يعمل على ملعب بلا حدود. فالملتقى بين الخارج والداخل يجمع بين مبدأ جمهورية ديمقراطية وفكرة الامبراطورية، والامبراطورية بهذا المنحى تأخذ شكل جمهورية كونية، شبكة من السلطات والسلطات المضادة ذات بنية استيعابية، وبلا حدود.

إن عدم الاعتراف بحدود نهائية، يدل على أن أميركا برنامج مبدئي لملاقاة الآخرين ودحرهم إلى ما لا نهاية ـ إنها تستمد ماهيتها من إرادة حرب، وهي تصر على استقلالها ـ بوصفه فتحاً مستمراً للحدود. لذلك نجد أن الدستور الأميركي الذي يؤيد الحريات لا يجد أزمة في إبادة الهنود الحمر أو في استعباد السود أو في التآمر على حريات الشعوب، بل يكتفي بإقصاء ضحاياه خارج آلته الحقوقية.

هذا المشروع الامبراطوري هو مشروع عالمي للسلطة في شكل شبكة. فأميركا تلعب دور الشرطي العالمي بشكل مختلف إلى حد كبير عن شرطي الدول القومية. فهي تعمل خارج نطاق المفهوم القومي، ومشروعية مشروعها مستمدة من الحاجة إليه. فكيف يمكن أن نستخدم أدوات العولمة دون أن نتعولم، والعولمة بالنتيجة إعادة مفصلة لفضاء مفتوح وإعادة اختراع لعلاقات متباينة ومتفردة باستمرار في نطاق شبكات تقطع أرضاً بلا حدود.

أميركا هذه، حسب الكتاب، لا يمكنها أن تقتسم الأرض وتتعايش مع عالمية أخرى يمثلها الإسلام. والمقصود بالإسلام في هذا المقام ليس فرداً أو دولة أو أمة، بل نمط من العيش يتخذ من خارجيته المحضة فضاءه الخاص. والدولة العالمية التي يسعى إليها تصطدم بالدولة الامبراطورية الأميركية لأنه لا يستطيع أن يعيش أي منهما ضمن سيادة وسيطرة الآخر.

منذ أن انقلبت السيادة الاستعمارية إلى سيادة رقمية على العالم، استنفدت الدولة منطق وجودها فلم تعد أكثر من مفهوم إجرائي. وهذا ما فرض على الديني سد الثغرات في المعايير الذاتية، لذلك لم تعد ظاهرة الديني مجرد ظاهرة سطحية. فهي مقاومة للحظة القصوى للامبراطورية العالمية.