دروس ألمانية للعراقيين

تاريخ ألمانيا الهتلرية وتشظيها إلى قسمين

TT

«موجز تاريخ ألمانيا الحديث» للمؤرخ الألماني يورغن فبر، مصدر ومرجع جدير بمطالعة وحيازة كل المهتمين بتاريخ أوروبا الحديث، وعلى الخصوص ألمانيا منذ خروجها مهزومة من الحرب العالمية الثانية. اصدرت هذا الكتاب الدائرة المركزية البافارية للثقافة السياسية عام 2001، باسم «تاريخ ألمانيا 1945 ـ 1990»، وقام بترجمته إلى العربية شفيق البساط، ترجمة سلسة ودقيقة، ونشرته دار الحكمة في لندن في طبعة أنيقة مراجعة ومضبوطة قلّما يواجه فيها القارئ أي أخطاء أو أي سهو مطبعي، مما ألفناه في الكتب العربية. انه إنجاز للمترجم والناشر، وطبعاً المؤلف الذي لم يقحم نفسه في الموضوع، مكتفياً بسرد الوقائع كما حدثت، وهو شيء ليس بقليل بالنسبة لمثل هذا الموضوع الشائك والمتشعب.

هذا الكتاب جدير بصورة خاصة بقراءة العراقيين، حكومة وجمهوراً، واستخلاص الدروس المناسبة منه. فكثيرا ما قورن صدام حسين بهتلر، وقورن مصير العراق بعد سقوط الحكم البعثي بمصير ألمانيا بعد سقوط الحكم النازي، طبعاً مع الفارق، فألمانيا نهضت من سقوطها وأصبحت عملاقاً، في حين أن العراق، كما يبدو حتى الآن، أصبح الرجل المريض للشرق الأوسط.

هناك على الخصوص درس في هذا الكتاب بشأن كيفية التعامل مع فئات النظام السابق، فالحلفاء والألمان اتفقوا على تقسيم رجال العهد السابق إلى فصائل، هناك المجرم والمذنب والمذنب الرئيسي والمؤيد والمؤيد غير الفاعل.. وقد انصبّ العقاب على مرتكبي الجرائم فقط. يقول الكاتب إن تسعين شخصاً فقط سيقوا للمحاكم في المنطقة البريطانية، ولم يحاكم في المنطقة الأمريكية غير واحد بالمائة من المتهمين، أما بقية اعضاء الحزب النازي، فكان منهم من تقاعد ومنهم من تأقلم مع الوضع الجديد واعتذر عما فعل. لقد تبنى الديمقراطيون الجدد شعار «الخطأ ممكن عند العمل في السياسة».

عملية بناء الديمقراطية درس آخر جدير بملاحظة العراقيين في هذا الكتاب، بل وكل الدول العربية، المتطلعة إلى إقامة الديمقراطية. هناك فصول عن إصلاح المارك وإعادة تقييمه، ودور مشروع مارشال في إغاثة أوروبا. الفكرة الدارجة هي ان نهوض ألمانيا يعود لمساعدات هذا المشروع، لكن المؤلف يذكر أن الألمان لم يتسلموا غير 10% من مشروع مارشال، والبقية تلاقفتها الدول الأوروبية الأخرى، وعلى رأسها بريطانيا. نهوض ألمانيا يعود بصورة رئيسية لسواعد الألمان أنفسهم وعزيمتهم على إعادة بناء وطنهم، وهذا درس آخر للعراق.

ولا شك أن قسطاً كبيراً من ذلك يعود إلى حسن الاختيار، فعندما تولى لودفيغ ارهارد إدارة الاقتصاد للمنطقتين البريطانية والأميركية، عمد إلى إخراج ألمانيا من نطاق الاقتصاد الموجه الذي اعتاد عليه الألمان في عهد هتلر، وتبني اقتصاديات السوق الاجتماعية، سرعان ما أدى هذا إلى توفر البضائع في الأسواق وأفول السوق السوداء. لحسن حظ الألمان، اندلاع الحرب الكورية التي أدت إلى مضاعفة الطلب على المنتجات الألمانية.. ما أصدق ما قالوا «مصائب قوم عند قوم فوائد».

يستعرض يورغن فبر التطورات التي أدت إلى انقسام ألمانيا إلى شرقية وغربية، ثم عودتهما للاتحاد بعد انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية. وهنا نجد الدرس البليغ في الجريمة التي ارتكبها الاتحاد السوفياتي بحق سائر الدول الاشتراكية والشيوعية وأحزابها، انها اليد الثقيلة للكرملن، فطالما اخذت المقارنة بين الاشتراكية والرأسمالية شكل المقارنة بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. فها هنا دولة واحدة وشعب واحد وتاريخ واحد، فلماذا يزدهر جزء منه ويذبل الجزء الآخر؟.

حاول اولبرخت تحدي هذه المقارنة واللحاق بألمانيا الغربية، بل والتفوق عليها، بعد إجراء الإصلاحات اللازمة في المنهج والتطبيق الاشتراكي. تبنى اولبرخت شعار «الاكتفاء الذاتي»، والتأكيد على الإصلاح والتعليم العلمي الموضوع في المدارس والكليات. سعى اولبرخت إلى تحويل المانيا الشرقية إلى مثال تجريبي تحتذيه دول أوروبا الشرقية الأخرى، لكن برجنيف في الكرملن لم يستذوق ذلك، فهو ينطوي على تحدّ للاتحاد السوفياتي وأساليبه في العمل. الاكتفاء الذاتي يعني الاستغناء عن السوفيات، فقاوم ذلك وأحال شؤون ألمانيا الشرقية إلى المجموعة الماركسية المحافظة، جماعة اريك هونغر وغونتر ميتاغ، وختم بذلك على ألمانيا الشرقية الذي تمثل في بناء جدار برلين ومعاقبة كل مَن يهرب بالسجن.

المؤسف في هذا الكتاب بالنسبة للقارئ العربي، خلوّ الكتاب من أي شيء يتعلق بالعلاقات العربية ـ الألمانية، لكن مَن يعبأ بالعرب في هذه الأيام؟، الإشارة الوحيدة لهم جاءت في صعود أزمة النفط وأثرها على الاقتصاد الألماني، لكن هذا الكتاب الموسوعي الجليل عوض عن ذلك بالجداول الزمنية للاحداث بعد نهاية كل فصل ليوفر للقراء والباحثين عناء التعب في البحث عن كل معلومة وتاريخها بين ما يقرب من خمسمائة صفحة من القطع الكبير.