محن قديمة ومعارك مع الموتى في سبعينية أحمد عبد المعطي حجازي

هل كان يجب أن نخطو على جثة

TT

صلاح عبد الصبور، بعد وفاته بربع قرن، لكي نحتفل بأحمد عبد المعطي حجازي؟ هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني

بعد أن أنهى فاروق شوشة كلمته كأول المتحدثين في الاحتفالية التي أقامها أتيلييه القاهرة أخيراً بمناسبة بلوغ أحمد

عبد المعطي حجازي سن السبعين.

بدأت الاحتفالية بمقدمة متميزة من الكاتب الصحافي أسامة عرابي مقرر لجنة الأدب بالأتيلييه، عن المحتفى به ومشواره الإبداعي، خاصة أن أسامة عرابي يقدم دراسة في المحتفى به لا مجرد مقدمة، ثم بدأ المتحدثون يتوافدون على المنصة واحداً واحداً، وكانت كلمات فاروق شوشة النثرية الشعرية المحكمة تنساب برشاقة في مديح الشاعر الكبير، وتتبع رحلته، فتبدأ من ثأر حجازي من القاهرة في ديوانه الأول، وانتصاره على كل فوضى الزحام والانسحاق تحت أقدام المدينة، وأحاسيس الغربة والعزلة، ثم تدشين شخصية الشاعر الصعلوك بمفهومها الحقيقي، أي ذاك الباحث عن الحرية، المغرم بالتحدي، الخارج على الجماعة. ثم طرح شوشة علاقة حجازي بالموروث الشعري، والجدلية المستمرة بينهما، وانتقاء حجازي لما يجب الإبقاء عليه، وتوقفه أمام ما يستحق من حيث المعنى والدلالة.

السياب وحجازي استثناءان

* ثم بدأ شوشة في حديث عن اللغة لدى رواد حركة التجديد في الشعر، مؤكداً علمه بعدم موافقة كثيرين على آرائه، حيث يرى أن التجارب الأولى لهؤلاء كانت رائعة ومقتحمة ومفاجئة، لكن صيغت في كثير منها في لغة هشة، تذكره حين يقرأها بالشعر المترجم، أي الغريب عن اللغة، وأكد أنه لم ينج من هذه الركاكة سوى بدر شاكر السياب في العراق، وأحمد عبد المعطي حجازي في مصر. وجدير بالذكر هنا أن الناقد الراحل غالي شكري كان قد حدد الاتجاه الكلاسيكي لحركة الشعر الجديد في السياب وحجازي. وخطورة حديث شوشة ليست في القاعدة التي يود ترسيخها، بقدر ما هي في الاستثناءات منها، التي لم تشمل سوى السياب وحجازي وحدهما!

وجاء شوشة في حديثه عن اللغة على ذكر البياتي، مشيراً فقط إلى السباب الذي يملأ شعره! ومنتقلاً إلى عروبة شعر حجازي بمعنى انتسابه إلى الشجرة الشعرية. ثم حل شبح صلاح عبد الصبور فجأة، أو لنقل بعث عبد الصبور حياً من جديد، ذاك الذي لم يمت ما دام شعره حياً، يستدعي الخصومة بعد كل هذه السنين، حيث أكد شوشة ـ والحديث لا يزال عن التجارب الأولى ـ على الإحكام اللغوي الذي يفتقر إليه شعر عبد الصبور، ثم استفاض في الحديث عنه قائلاً: إن عبد الصبور كان دوماً يردد من خلال شعره «أنا مفكر» بطرق شتى، حيث يبرز معرفته بإليوت وأراجون وبودلير وغيرهم، بينما يظل حجازي ابن البرية والسليقة، ليس «لأنه لا يعرف ما يعرفه عبد الصبور، بل لأن تجربته أصفى من حيث الشعرية في مفهومها الحقيقي»، وذلك بحسب وصف شوشة.

النيل من عبد الصبور لمدح حجازي

* ولا أعرف ما الذي تضيفه تلك المقارنة، لتاريخ حجازي الشعري في سبعينه، وما الذي يجنيه شوشة لرصيده بها. أم أنها محن قديمة تطل في صورة معارك مع الموتى؟

وعلينا أن نتوقف أمام تلك المعارك، محبة في حجازي وشوشة، قبل أن تكون تعجباً من حديث شوشة وصمت حجازي، بل وصمت كل المتحدثين بعد شوشة وكذلك الحاضرين عن هذه النقطة، حيث كان من المتحدثين كل من المفكر محمود أمين العالم، و أ. د . كاميليا صبحي الأكاديمية والملحقة الثقافية للسفارة المصرية بباريس، التي مدحت حجازي بكلمات قليلة رقيقة، والناقد د. محمد عبد المطلب، والفنان عدلي رزق الله، والشاعران المخضرمان حسن طلب وحلمي سالم، كما حضر الاحتفالية نخبة من المثقفين وجمهور كبير من الحضور، استمع إلى دراسات وشهادات المتحدثين حول ثراء مشروع حجازي و خصوصيته، وإن غاب معظم شعراء قصيدة النثر الذين اعتادوا الذهاب لندوات الأتيلييه، وحضر فقط قلة قليلة منهم. وشعراء قصيدة النثر هؤلاء الذين دأب حجازي على مهاجمة قصيدتهم، وإن بدأ يهدأ عنهم في الفترة الأخيرة، لكن قضيتهم لم تثر خلال الاحتفالية، وهي احدى معارك حجازي الشهيرة، كذلك لم تذكر معركته مع أدونيس، وهي لا تقل شهرة. فقد أطل صلاح عبد الصبور برأسه خصماً شعرياً عنيداً لحجازي من خلال كلمة شوشة، التي أعادته لأذهان من عايشوه، ومن سمعوا عن سيرته و قرأوه، بل أعادت لأذهانهم الثنائيات التي قسمت ظهر الشعر المصري، وربما أعادت لحظات ومواقف بعينها، لدى البعض داخل الاحتفالية، فهمس بها أحد المثقفين لمن يجلس بجواره، مع ظنه أنه لن يستمع إليه أحد ممن حوله، فحدث حين تولى صلاح عبد الصبور رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، أن أعطى أمراً بأن يدخل عليه أي شاعر، حين يأتي بدون استئذان أياً كان عمره، و يجالسه وجهاً لوجه لا من وراء مكتب السلطة ليعرف مشكلاته ومتطلباته، بينما قرر حجازي في تاريخ مختلف، حينما تولى رئاسة تحرير مجلة «إبداع» أن يتعامل من خلال المجلة، مع نخبة الشعراء فقط دون حرافيشهم.

يوم وفاة عبد الصبور

* وربما عاد لأذهان البعض ما شُهد وعُرف عن يوم وفاة صلاح عبد الصبور، الذي كان مدعواً مع ثلة من المثقفين لحضور حفل في بيت حجازي، وسارت الليلة كما يجب إلى أن رشقت كلمات الفنان الراحل بهجت عثمان صدر عبد الصبور فأصيب بذبحة جراء اتهام صديقه له بأنه باع نفسه للسلطة بثمن بخس، وتوفي في المستشفى، ورثاه حجازي بمقال نشر في مجلة «الكرمل» حينها، وضمنه حجازي أحد كتبه. و قد عاد الشاعر عبد المنعم رمضان لهذا المقال في شهادة ألقاها في احتفال «المجلس الأعلى للثقافة» بذكرى عبد الصبور منذ بضع سنوات، منتقداً نيل حجازي من عبد الصبور في مقال الرثاء. وقد شارك فاروق شوشة في هذا الاحتفال بإلقاء جزء من رائعة عبد الصبور «مأساة الحلاج»، و قد وقع اختياره حينها على المقطع الخاص بهجاء المدعين من الشعراء.

وجدير بالذكر هنا أن المفكر د. نصر حامد أبو زيد قام بتدريس «مأساة الحلاج» أثناء عمله كأستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة القاهرة، لطلبته في مادة الأدب العربي من قسم الفلسفة تحديداً، لإيمانه بأنها النموذج الأمثل على عمل عبقري يصهر الشعر والمسرح و التصوف والفلسفة في آن، كما قدم عبد الصبور كشاعر رائد مجدد، كان أحد أهداف مشروعه الشعري تحويل اللغة من مسارها المحافظ القديم إلى مسار آخر جديد، مما شجع بعض الطلبة على قراءة ودراسة المشروع الشعري لصلاح عبد الصبور كاملاً، و شاء الحظ أن كانت كاتبة هذه السطور من هؤلاء الطلبة.

وقد أُعلن قبل نهاية الاحتفالية عن خبر جميل يؤكد أن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي كان آخر دواوينه «أشجار الأسمنت» عام 1989، يعكف الآن على كتابة مسرحية شعرية، يخفي أنباءها عن أعين الفضوليين بحد وصف أسامة عرابي.