ما بين «حزب شيوعي» يتلاشى و«كسكس ملوكي» بسعر 8 يورو فقط

احتفال «لومانيتيه» السنوي في فرنسا

TT

800 ألف شخص حضروا الاحتفال السبعين بعيد «لومانيتي» الذي يقام سنوياً، ويعتبر من أهم المناسبات للشيوعيين

ومعهم اليساريون في فرنسا. وهو رقمٌ كبير بكل المقاييس في هذه المنطقة التي تعرف بـاسم «لاكورنوف». عيد استقر

على 70 هكتاراً، وتوزع على 550 جناحاً يغطي 70000 متر مربع، الظروف التي تفسر هذا التواجد الكثيف كثيرةٌ،

وليس بينها بالتأكيد عودة اليسار إلى سابق مجده وازدهاره.

يمكن تفسير كثافة الحضور بأن السماء كانت رحيمة هذه السنة فلم تمطر بكثرة كباقي السنوات، ومن جهة أخرى أن الهموم الكبرى انصبت على القضايا الداخلية الفرنسية من خلال تداعياتها الخارجية القريبة بها، خصوصا بعد نجاح التصويت بـ «لا» على الدستور الأوروبي. كما لا يجب أن ننسى أن الحفل تضمنته حفلات موسيقية شبابية كبيرة، استدعت الكثير من الذين لا يعرفون السياسة، وبشكل أخص سياسة الحزب الشيوعي. وكم كان لافتا رؤية أبناء الهجرة العربية من الجيل الثاني والثالث، وهم يرقصون على أنغام موسيقية من العديد من الدول. أشكال موسيقية بدأها الممثل والمخرج الصربي الكبير «أمير كوستوريا» من خلال فرقته الموسيقية «No Smoking orchestra» إلى الزوجين، المالي الضرير «أمادو» و«مريم» وغيرهما من المغنين ومن الفرق الموسيقية، لم تترك الشباب المتعطش للحرية وإلى نسيان الهموم اليومية لا مُبالياً.

الحضور الكثيف أيضا تبدى من خلال مشاركة مناطق واسعة من الأقاليم الفرنسية، كانت تستعرض طبخها ومشروباتها في محاولة يائسة للدفاع عن مقولة «الاستهلاك الوطني الفرنسي»، أي مواجهة عولمة كاسحة لا تُبقي ولا تَذَر. وفي حين كانت الندوات السياسية، لا تعرف أي إقبال يُذكر (أقل من عشرين شخصا)، كانت المطاعم التركية والكردية لـ ِ«الشوارما» الرخيصة سيدة الميدان، صابغة على المكان مَرَحا طباخيا، لا علاقة له بالاحتقان السياسي والاقتصادي، الذي يكشف عن نفسه مع كل دخول سنوي جديد.

منذُ فترة طويلة جدا كان الدخول السياسي الفرنسي مطبوعا بصفة لافتة بحفل لومانتيه في «لاكورنوف»، وكانت الفرصة سانحة لتسجيل وقع الدخول السياسي والاقتصادي، كما أنه كان فرصة للأحزاب اليسارية بأن تتبادل المواقف وإظهار تضامن أممي في وجه رأسمالية مكتسحة وواثقة من نفسها. كما أن هذا الحفل، أيضا، كان فرصة لملء خزائن الحزب الشيوعي الفرنسي من رسوم الدخول التي يدفعها كلّ من تطأ قدماه أرض المعرض، وأيضا للدعاية لجريدته اليومية «لومانيتيه»، التي كانت ولا تزال تعاني من انهيار المبيعات... وهو انهيار يُعزى إلى نفور القارئ الفرنسي من كل صحيفة عقائدية. غياب القضية الفلسطينية بعد عزّ الأيام الذهبية، ونقصد الستينات والسبعينات، التي كانت تَطْبع هذا الاحتفال، كانت تَتَرَافقُ مع قوة انتخابية للحزب الشيوعي تَصل إلى أكثر من 25 في المائة في خريطة السياسة الفرنسية... في تلك الفترة كان نضال الحزب الشيوعي في حرب التحرير الفرنسية لا يزالُ على كل الشفاه وفي كل العقول.

عربيا كانت الأحزاب اليسارية العربية من كل تشكيلاتها تحرص على حجز أجنحة في الساحة العريضة من منطقة «لاكورنوف»، وكانت القضية الفلسطينية وباقي القضايا التي تُدرَجُ في خانة التحرر الوطني ومواجهة الهيمنة الغربية، في قلب التضامن الآتي من كل الحضور. أشياء كثيرة كانت تطبع الحضور الذي يدوم ثلاثة أيام من شهر سبتمبر (الجمعة والسبت والأحد) وعلى رأسها حُضور مغنين فرنسيين، كانوا في الغالب من مُغنين ملتزمين وتقدميين «ليو فيري» و«فيرا» و«براسانس» و«رونو» وغيرهم.

أما الآن فالجو تغير بصفة جذرية، إذ إن البرسترويكا وما تبعه من انهيار الاتحاد السوفييتي أصابته في مقتل، وغيرتْ كذلك من سقف الآمال التي تُعلَّق عليه، وجعلت منه حدثا ثقافيا مرحا مفتوحا على كل من يريد، من أفراد وعائلات بأكملها، أن تستغل نهاية أسبوعٍ مَا، في شهر سبتمبر قبل الصقيع الشتائي.

الجمهور اليساري الذي كان يأتي عن شوق وعن طواعية إنْ بسبب تحزبه أو تعاطفه مع قضايا كانت تشغل الرأيين الوطني والدولي، هو في طريق التقلص. وأصبح من الضروري جلب جمهور آخر ليس يساريا بالضرورة، جمهور يدفع رسوم الدخول ويستهلك المواد التي تُباع في مختلف الأجنحة. الفرصة أيضا كانت لمختلف الأحزاب لنشر أدبياتها السياسية وبرامجها والتعريف بنضالاتها، وبيع ما استطاعتْ من أجل تمويل كل هذه الأنشطة. ماذا تبقى اليوم، من كل هذا؟ الصحيفة العريقة «لومانيتي»، التي لا تبيع كثيرا، انفتحت على رساميل خارجية تحد من حريتها ومن خطها التحريري.. كما أن الحزب الشيوعي سقط إلى تعاطف 5% فقط من الناخبين الفرنسيين.

أما الجانب العربي، في الحضور والذي كان في السابق يمتاز بكثافته وجعجعته، فقد أصبح باهتا ومتشظيا، وإلا كيف يكون للمغرب أكثر من جناح وللجزائريين أيضا ولغيرهم من عرب المشرق.. لقد ولى الزمن الذي كان فيه الناس يتدفقون للتضامن مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية إنسانية كبيرة تهز الضمير العالمي في صميمه. أصبحت القضية تقتصر على استقبال فاتر من رئيسة الحزب الشيوعي لسفيرة السلطة الفلسطينية في باريس «ليلى شهيد»، ومن خلال حملة تواقيع ضد حائط العار الإسرائيلي وعلى بيع أعلام فلسطينية وكوفيات. لقد طمس اتفاق «أوسلو» وانهيار الاتحاد السوفييتي كل شيء بما فيه الرصيد الهائل من الاحترام الذي كانت تحظى به القضية الفلسطينية، وأصبح غول العولمة المنتصر وكيفية مقاومته بل والحدّ من فظائعه، هو ما يوحد بين تشكيلات سياسية أقلوية ومنظمات غير حكومية.

مرة سئل وزير الخارجية الفرنسي الراحل «ميشيل جوبير» عن ما تبقى من السياسة العربية لفرنسا فأجاب بسخرية: «ما زال يتبقى باربيس» (أي الحي العربي في باريس، الذي هو، الآن، في أفق الاحتضار). وإذا ما طبقنا هذه المقولة على الحضور العربي في حفل «لومانيتي» فليس من العسير أن يكون من قبيل، ما قاله مُعارِض مغربي يساري سابق، لم يُفوت منذ عشرين سنة حضور الحفل: «ما تبقى هو هذا الطباخ المغربي الذي لا يفقه من أبجديات السياسة شيئا، وها هو يكشف عن فرحة ماكرة وهو يستقبل في مطعمه جمهورا كثيفا من كل الجنسيات، استساغ فكرة كسكس ملكي مقابل ثمانية يورو فقط».

صحيح أن هذا الطباخ المغربي وغيره سنراهم في العام القادم بكل تأكيد.. وهو لن يتوانَى عن التصريح بأن حفل الحزب الشيوعي الفرنسي كان ناجحا بكل المقاييس، مقاييسه طبعا.