روائي يهاجم «ثقافة الحجر وبداوة الفكر»

بنسالم حميش : الجابري يدين لفلسفة الأنوار ذات النزعات الإرهابية

TT

لا يتوقف بنسالم حميش روائيا أو مفكرا عن طرح سؤال الواقع، أو ممارسة الفلسفة بالفعل، سواء اكتسى ذلك الطرح

عودة إلى الثرات من أجل تفجيره، أو من أجل فضح العلاقة القائمة بين الدين والسياسة، الاضطهاد والاتباع، كما هو الحال

في رائعته «مجنون الحكم»، أو في كتابه الأخير، الذي يدعو إلى تأسيس ثقافة سجالية تتجاوز التحنيط المفاهيمي

وتنفتح على الحياة وعلى أسئلتها، وتنأى بنفسها عن التقوقع والانحصار.

يأتي هذا الكتاب في زمن تتصاعد فيه أصوات الليبرالية الجديدة حتى داخل البيت العربي من جهة، وأصوات التكفير والتراجع من جهة أخرى، وبلغة الكاتب هي: «ثقافة الحجر وبداوة الفكر».

ينعى بنسالم حميش في كتابه الصادر عن «المركز الثقافي العربي»، اختفاء السجال من الثقافة العربية في العقدين الأخيرين، وتحولها عن ممارسة النقد إلى توزيع الأوسمة وعقد المؤتمرات وتبادل المصالح. يبدأ المؤلف كتابه بطرح موضوعه المثقف والالتزام عند إدوارد سعيد، الذي يقول بأن «المثقف بالمعنى الذي أعنيه، ليس مهادنا ولا مشيد إجماع، بل إنه فرد يلزم وجوده ويخاطر به انطلاقا من حس نقدي دائم، فرد يرفض، ومهما يكن الثمن، التعابير السهلة والأفكار الجاهزة والتأكيدات المواربة لأقوال وأفعال رجال السلطة، وغيرهم من العقول التقليدية. وهو لا يرفضها سلبيا فحسب، بل يلتزم، فعليا، بالجهر برفضه بين الناس». يلتقي سعيد في هذا السياق بتصور غرامشي عن المثقف العضوي وعن الثقافة كسياسة، كانخراط في التاريخ، وبتصور بورديو عن المثقف الكلي الذي جاء ليحرر النقد من الرؤية الأكاديمية الضيقة، وبلغة سعيد: من الاحترافية. وينتقد بنسالم حميش كل محاولة للهروب إلى الأمام، والاستقالة التاريخية، التي تفهم العالمية والانخراط بزمن العالم كرفض للذات وللمحلية، كما هو الحال عند هشام جعيط مثلا، ما من شأنه أن يرسخ الشرخ الواسع بين المثقف ووسطه الاجتماعي، ويحول دون انخراطه في قضايا مجتمعه، تأثره وتأثيره بها.

ولا يعني بنسالم حميش بثقافة الحجر شيئا آخر غير تلك الثقافة التي تؤبد تبعية الأطراف للمحيط اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. وهي ثقافة تعمل على إضعاف ذاكرة الأطراف وإبدالها بذاكرة الأقوى، وذلك كفيل بأن يرسخ لديهم الشعور بالدونية ويؤبد تبعيتهم للمركز. ويرى المؤلف في الفرنكفونية أكبر مثال على سياسة الحجر أو الهيمنة الثقافية وخصوصا في المغرب العربي. إذ إنه في صراع الفرنسية المستميت ضد اللغة الانجليزية، لا تنأى عن الاستمرار في فرض هيمنتها على اللغات والثقافات الأخرى وجرها إلى حلبة الصراع تلك، واعتبار نفسها وصيا على تلك الثقافات واللغات المحلية، ومنافحة عنها ضد هجمة الثقافة الأنغلوسكسونية. ويعرض في هذا الباب للنقد الذي توجه به المهدي المنجرة للفرنكفونية والذي رأى فيها سياسة اقتصادية لا مستقبل لها، لأنها تؤبد تبعية الآخرين لفرنسا وتشجع على الشحاذة، كما أنها ثقافيا تحط من قدر الثقافة العربية وتهدد هوية شعوب بأكملها. لا يبخس بنسالم حميش في نقده للفرنكفونية، فوائد الازدواجية اللغوية، لكنه يرفض سياسة حجر لغة على أخرى واتهامها بالدينية أو المحافظة، أو بأنها «لغة الرقابة والرقابة الذاتية» كما يدعي الطاهر بن جلون، وحتى بعض الأساتذة الجامعيين مثل أركون وجمال الدين بن الشيخ الذي يرى أنه لا يستطيع أن يكتب شعرا بالعربية، لأنها بالنسبة إليه لغة مبنية على النموذجية، لا يستطيع أن يبلغ فيها فضاء وحدته. أو كما عبر أحد الكتاب الفرنكفونيين الرديئين وهو فؤاد العروي: «لأنها لغة المهزومين». هذا التردي والاستلاب الفكريين، يتعارض كليا مع آراء كتاب كبار من طراز نيكوس كازانتازاكيس الذي ظل يردد أن شيئين فقط شغلا حياته: «حرية شعبه وتجديد لغته الأم» أو هاينريش بول، الكاتب الألماني الكبير، الذي يرى بأنه «لا يوجد شكل انتماء إلى شعب أعلى من الكتابة في لغته». ثم يعرض أخيرا للرأي الثاقب لجاك بيرك، الذي هاجم بشدة سياسة الاستعمار الثقافي التي تنتهجها فرنسا قائلا: «لاتقاء شر انقسامات خطيرة جدا قد تمدد أو حتى تفاقم الزمن الاستعماري، لا بد للغة الإبداع العربي أن تكون من جديد لغة الشعوب العربية، أي لغة الضاد، حتى ولو لم يمارس الجمهور إلا أشكالها الفاسدة والمتجزئة».

وينتقل المؤلف في نقده لثقافة الحجر إلى تفكيك خطاب الليبرالية الجديدة كما تجلى في كتابات فوكوياما وهنتنغتون. فيرى أن كتابات الأول تفضح تلك العلاقة الوطيدة بين الرأسمالية والحرب. ففوكوياما يرى أن الديمقراطية الليبرالية التي تخوض كل جيل حربا قصيرة للدفاع عن حريتها أوفر صحة من الديمقراطية التي لا تعرف غير السلام الدائم. أما هنتنغتون الذي يعتبر أن أكبر عدو للديمقراطية الغربية بعد الحرب الباردة هو الاسلام، وأن الثقافة الاسلامية قائمة على العنف، وهو في قراءته الإيديولوجية والأحادية البعد، لا يطمح إلا إلى تأكيد أن النموذج الأمريكي هو النموذج المحتذى، وأنه وحده ضامن الحضارة الحديثة. حضارة تظل في نظر حميش ليست أكثر من سوق، أو بلغة مؤلفي فخ العولمة: إن التبادل الحر ليس سوى تطبيق قانون الأقوى.

في الباب الثاني من كتابه، والذي يحمل عنوان: «نقد بداوة الفكر» يعرج المؤلف على كتابات الجابري، وخصوصا لفكرته التي تقول بأن مسألة العلمانية في العالم العربي مسألة زائفة، وأن الحل هو الديمقراطية والعقلانية. ويرى أن الجابري يتناقض وأطروحاته الجريئة في نقد العقل العربي. وأنه لم يفهم أنه لا ديمقراطية ولا عقلانية بلا علمانية. وأن العلمانية لا تعني استبعاد الإسلام ولكن الحفاظ عليه وتحريره من ألاعيب السياسة. كما أن حميش يرفض امبريالية العقل عند الجابري في مشروعه النقدي وحكمه على الحضارة العربية بأنها حضارة فقه، أو عقل مستقيل. إن مفهوم العقل عند الجابري يدين بالكثير لفلسفة الأنوار، وهو مفهوم قد أثبتث القراءات المعاصرة لمدرسة فرانكفورت ولفلسفة الاختلاف الفرنسية نزعاته الإرهابية والإقصائية لكل ما هو آخر.