المسلسلات التلفزيونية الأميركية توقظ ثقافات العالم!

جرأة «زوجات يائسات» تفتح جحيم الأسئلة

TT

وزعت الأكاديمية الأميركية لعلوم وآداب التلفزيون، الجوائز السنوية المعروفة باسم «ايمي» لأحسن المسلسلات والبرامج التلفزيونية، خلال حفل اقيم الأسبوع الماضي في هوليوود، ونقلته الأقمار الصناعية، ويعتقد ان اكثر من مليار شخص في كل العالم شاهدوه. وهذا يعني ان للتلفزيون، والمسلسلات الأميركية تحديداً، تأثيراً متصاعداً على المشاهدين، مما يثير وجهات نظر متناقضة ومحيّرة بين المتخصصين أنفسهم.

يعتبر مليار مشاهد، رقما قياسيا لمشاهدي جوائز «ايمي» (يشاهد جوائز «اوسكار» للافلام السينمائية، عادة، عدد اكبر من هذا). وأثار ذلك تعليقات خبراء وباحثين، مهتمين بظاهرة الزيادة المستمرة، في تأثير المسلسلات التلفزيونية الاميركية على ثقافات الشعوب الاخرى، خاصة ثقافات العالم الثالث. وبحسب صمويل باك، استاذ علم الاجناس في جامعة تمبل (في ولاية بنسلفانيا)، فان تأثير المسلسلات التلفزيونية الاميركية في ثقافات العالم الثالث «ربما تنوير، وربما لعنة». ويرى ان التأثير، في كل الاحوال، «يدل على ان الصور التي تظهر في هذا الصندوق الإلكتروني تغير، ليس فقط فهم تلك الشعوب لثقافتنا، ولكن، ايضا، فهمهما لثقافاتها هي ولعلاقتها مع بعضها البعض».

أساتذة علم الأجناس

* وكتبت د. ليلى ابو لغد، استاذة علم الاجناس في جامعة كولومبيا (في نيويورك) ان «التلفزيون اصبح، في مناطق كثيرة من العالم، اكثر وسائل الاتصال شعبية وتأثيرا، ويقدم تنوعا لا تقدر الصحافة المكتوبة على انجاز ما يوازيه». وقالت أبو لغد لـ«الشرق الأوسط»، ان تجربتها في مصر تؤكد ذلك. وهي مؤلفة كتاب «دراما الوطنية: سياسات التلفزيون في مصر»، واجرت ابحاثا اخرى عن بدو مصر، وعن تأثير التلفزيون على الريف والمدينة في مصر (هي ابنة ابراهيم ابو لغد، الاستاذ الجامعي الاميركي الفلسطيني الراحل).

وقالت د. برنيما مانكيكار، استاذة علم الاجناس في جامعة ستانفورد (في ولاية كاليفورنيا)، ان الدراسات والابحاث الميدانية الاخيرة اثبتت ان التلفزيون «يؤثر في ثقافة الشخص وهويته وعلاقاته مع الآخرين.

تقرير الكونغرس

* ويوضح اهتمام خبراء علم الاجناس بهذا الموضوع ان تأثير المسلسلات التلفزيونية الاميركية في الخارج لم يعد موضوعا إعلاميا، ولكن اصبح جزءا من دراسة ثقافات وهويات الشعوب. ويدعو بعض هؤلاء، لهذا السبب، الى تأسيس مادة «علم الاجناس إلاعلامي» (ميديا انثروبولوجي). وصدر، في السنة الماضية، تقرير من لجنة في الكونغرس يدعو للاهتمام بمحتويات المسلسلات التلفزيونية والافلام السينمائية، ليس فقط خوفا من ان تقدم صوراً خاطئة عن الاميركيين للشعوب الاخرى، ولكن، ايضا، خوفا من ان يكون تأثيرها في ثقافات تلك الشعوب سلبيا. واشار التقرير الى النقاش المستمر داخل اميركا نفسها بأن المسلسلات والبرامج التلفزيونية زادت، خلال السنوات القليلة الماضية، التركيز على العنف والجنس والشذوذ.

انتقادات أميركية ساخنة

* الاسبوع الماضي، وفي حفل توزيع جوائز «ايمي» في هوليوود، كان اشهر مسلسل تلفزيوني هو «زوجات يائسات» (دسبريت هاوسوايفز). وظل هذا المسلسل يثير نقاشا ساخنا في الأوساط الأميركية، منذ بدأ عرضه، في السنة الماضية. وخلال الحفل عرضت مناظر من المسلسل على شاشة عملاقة، وفيها لقطات يمكن ان توصف بأنها غير لائقة، اذا لم تكن خليعة. وقال معلق تلفزيوني خلال الحفل انه لا يصدق «ان شعوبا في دول العالم الثالث تشاهد هذا».

ويتلخص المسلسل في مغامرات خيالية لخمس زوجات (ثلاث منهن شقراوات)، وانتقدته منظمات وجمعيات دينية ومحافظة. لكن المسلسل نال، في الاسبوع الماضي، اكثر من جائزة «ايمي»، منها واحدة للمخرج تشارلز مكدوغال، وواحدة للممثلة فلستي هوفمان (من اليائسات الخمس). كان المسلسل مغمورا حتى اكتشفته قناة تلفزيون «اي بي سي»، ومنذ اول حلقة، ساعدت الإثارة والخديعة والمغامرة على زيادة مشاهدة المسلسل، واصبح انجح برنامج في القناة منذ برنامج «من يريد ان يكون مليونيرا؟»، قبل خمس سنوات، وهو البرنامج الذي قلدته تلفزيونات كثيرة خارج اميركا.

زوجات حقيقيات

* وتحول المسلسل الخيالي الى مسلسلات واقعية في قنوات تلفزيونية اميركية اخرى، اصبحت تقدم «زوجات يائسات» حقيقيات، يشتكين من السأم ويحكين عن مغامراتهن العاطفية والجنسية. وكتبت جريدة «واشنطن بوست»، ان الظاهرة اصبحت جزءا من الثقافة الاميركية التلفزيونية، وبدأت فضائيات خارج اميركا (منها فضائيات عربية) تقدم المسلسل الخيالي. ولا يعرف اذا كانت عاداتها وتقاليدها تسمح لها بتقديم مسلسلات واقعية لزوجات حقيقيات. بدأ المسلسل في اميركا في اكتوبر (تشرين الاول) من السنة الماضية. وبعد شهر ظهر في بريطانيا والمانيا، ثم البرازيل واستراليا، وبدأ عرضه مع بداية هذه السنة في المكسيك وبولندا وسويسرا واسبانيا، ورأته قبل شهور قليلة، دول اسلامية اربع: تركيا وماليزيا واندونيسيا والبوسنة، وحتى فرنسا، التي تتردد في عرض المسلسلات الاميركية، بدأت عرضه مع بداية هذا الشهر.

مؤامرة أم ترفيه

* وحذر د. سام باك، استاذ علم الاجناس في جامعة تمبل الاميركية، من رأيين: الرأي الأول الذي يقول ان المسلسلات التلفزيونية الاميركية «مؤامرة استعمارية»، الهدف منها هو التغلغل في ثقافات الشعوب الأخرى او تدميرها. والرأي الثاني الذي يرى فيها «مجرد ترفيه»، وان الشعوب التي تنتقدها مصابة بعقد نقص وتتخيل اخطارا ليست موجودة. ودافع د. باك عن مقدرة هذه الشعوب على الحكم على المسلسلات التلفزيونية الاميركية، قائلاً ان ابحاث علم الاجناس «اثبتت ان مشاهد التلفزيون يميل نحو تقييم ما يشاهد قبل ان يهضمه. وانه لا يهضم كل ما يشاهد». ورأى باك ان عرض هذه المسلسلات في تلفزيونات دول العالم الثالث «ايقظ المشاهد ولم ينومه. واثار تفكيره ولم يخدره، بل جعله يسأل: من هم هؤلاء الناس؟ من هم هؤلاء الاميركيون الذين يرسلون لنا هذه الاشياء؟».

لكن د. مانكيكار، استاذة علم الاجناس في جامعة ستانفورد، واصلها من الهند، قالت ان المشاهد العادي الفخور بهويته ربما يقدر على ان يفرق بين السلبي والايجابي. لكن الاقل منه علما وثقة بنفسه ربما لن يقدر. واشار البحث الى امثلة طريفة منها الآتي: في بيرو، وسط بقايا الهنود الحمر، اصبحت الموضة هي ان يحمل كل واحد قطعة حجر منحوتة على شكل راديو ترانسستور او مسجل. وفي اثيوبيا، وسط قبيلة البانا، يدفع الناس اموالا خيالية (حسب مستوي معيشتهم) لمشاهدة رسم كرتوني فيه «ميكي ماوس» داخل منظار ضوئي. أما في سوازيلاند، فيتزوج بعض الناس عراة او شبه عراة، بينما يذيع مسجل بالبطارية لحنا من فيلم «صوت الموسيقى». أما في مالي، وسط قبيلة الطوارق، فاصبحوا يصنعون سيوفا على شكل سيوف فيلم «القراصنة»، ويرتدون رسوم قلب مثل التي تظهر في ملصقات «أحب نيويورك».

موقع إنترنتي

* بدأ موقع «زوجات يائسات» في الانترنت اختبارا للنساء، يسأل كل واحدة منهن: «هل حياتك يأس وحيرة، او رضى واطمئنان؟ هل زواجك معلق بخيط رفيع، او يحتاج الي صيانة؟». وهذان سؤالان من الاختبار:

ـ «حصلت العائلة على مال اضافي، هل تريدين صرفه على سيارة جديدة أم تعليم الاولاد، او للحصول على طلاق؟».

ـ «رأيك الحقيقي في الرجل هو انه: لعبة، طفل كبير أم صداع؟». وهناك اختبار آخر يضع كل امرأة في خانة واحدة من زوجات المسلسل، اعتمادا على تفكيرها وتصرفاتها ورغباتها العلنية والخفية. ويرى موقع المسلسل ان مثل هذه الاختبارات لها آثار ايجابية، وان الناس يجب الا تركز على المناظر الجنسية في المسلسل.

وفي هذا قال د. باك ان «شعوب العالم الثالث في عصر المسلسلات الاميركية بدأت تسأل: من هم الاميركيون؟ ولماذا يفعلون ما يفعلون؟ وبدأت تفرق بين ايجابياتهم وسلبياتهم. وهذا يساعد شعوب العالم الثالث لتسأل: من نحن؟»، وقال في نهاية بحثه: «عكس ما يعتقد الخائفون والشاكون، المسلسلات التلفزيونية الاميركية يمكن ان تطور الهوية الوطنية وسط شعوب العالم الثالث».