ديوان يجمع محطات آدم زاغايفسكي

شاعر المعاني التي تتقنّع وراء الظاهر

TT

هناك شاعر لا يغادر المعنى الأرضي للمسؤولية، وآخر يمنح المسؤولية بعداً كونياً. الأول يُعنى بالتاريخ وما يعتمل في الواقع العياني، والآخر ذو نظرة ميتافيزيقية لا تطرب لرؤية الظاهر على أهميته، بل تطمع بما يتخفى وراءه.

هناك شاعر لا يغادر المعنى الأرضي للمسؤولية، وآخر يمنح المسؤولية بعداً كونياً. الأول يُعنى بالتاريخ وما يعتمل في الواقع العياني، والآخر ذو نظرة ميتافيزيقية لا تطرب لرؤية الظاهر على أهميته، بل تطمع بما يتخفى وراءه.

الشاعر البولندي الراحل ميووش نموذج رائع للطراز الثاني. ولعل هناك أكثر من نموذج رائع لهذا التيار في تاريخ الشعر العالمي، يمتد من القدماء: هسيود، هومر، فيرجل، ثم دانتي للمرحلة المسيحية، الى شعراء القرن التاسع عشر والعشرين: هوبكنر، ديفيد جونز، روبرت لاويل. الى قلة من العرب، لعل الشاعرين البريكان وصلاح عبد الصبور في مقدمتهم، يحاولون جميعا إضفاء معنى لنظام الكون الذي مضى والذي ما زال باقيا.

هؤلاء شعراء يواصلون البحث عن لغة تعبر عما هو ذاتي وعما هو متجاوز للذات. عما هو يومي عابر وما هو عصي على الوصف، دون أن يضطروا للجوء الى مصطلحات ذهنية كهذه. تأثيرات ميووش الغنية أنضجت أكثر من شاعر بهذا الاتجاه. آدم زاغايفسكي Zagajewski مواليد 1945) أبرز شاعر من بين هؤلاء اليوم، بدأ أول الشباب شاعراً غاضباً، يرى الأشياء كما يراها الشباب حاسمة ومحددة. ولعل قراءة قصيدة قديمة له تكشف عن مقدار التعارض بينها وبين صوته المألوف اليوم. في إحدى قصائده الشابة (1972) يقول:

انهض، شرّع البابَ، وأرخِ الحبال،

حرر النفس من شَبك الأعصاب،

وقل الحقيقة، تلك التي تتطلع اليها.

بيدك اليسرى امسكْ بالحب،

وباليمنى الكراهية...

كان حينها عضواً ناشطاً في الحركة الشعرية «الموجة الجديدة» من الستينيين البولنديين، الذين ولدوا حوالي 1945، وبدأوا نشاطهم الشعري في السبعينيات. كانوا يطمحون الى استيعاب المبادئ الشيوعية والمجتمع الشيوعي من زاوية وجودية، لا سياسية، ولكنه اكتشف أن السياسة ليست من عناصر شخصه وموهبته، فتحول شعره الى مسحة أكثر غنائية، وأكثر شخصية. شعرُ ثقافة وزاويةُ نظر، ترى عبر خبرة الحياة اليومية الأبعادَ الميتافيزيقية غير الظاهرة. فالشعر كما يعتقد يحتاج الى تنوع وغنى الحياة الحقيقية: «القصيدة تنمو في التعارضات». كتب في 1980«إن سعي الشاعر للتضأمن مع المضطهدين فقط يحدد من قدراته الإبداعية. في عزلة العقل وحدها يقدر الشاعر أن يقرب غزارة الحياة والوجود».

الشاعر زاغايفسكي عرف غربتيْ المنفى: الفيزيائية والميتافيزيقية. في سبعينيات القرن العشرين كان منشقاً في عز النظام الشمولي الذي حكم بولندا. وبالرغم من أنه لم يتعرض للسجن إلا انه كان يجد من الضروري مغادرة بلده الى فرنسا، ثم الى أميركا، قبل فرض الأحكام العرفية في عام1981، على أن عائلته كانت قد أجبرت على مغادرة مكانها في مدينة «لفوف» في فترة قصيرة بعد مولده عام 1945، الى مدينة سيليسيان، الأمر الذي تسرب في شعره جميعاً، متخذاً استعارة الخروج من جنة عدن كعقاب. في قصيدة «للذهاب الى مدينة لفوف»:

... أية محطة

الى لفوف، إن لم تكن في الحلم، فجراً، حين يلتمع

الندى على حقيبة السفر، ويُبعثُ القطارُ السريع.

لكي تغادر مسرعاً الى مدينة لفوف، ليلاً أو نهاراً، في أيلول

أو مارس، يتطلب الأمر أن تكون المدينة موجودة،

داخلَ حدودٍ، لا داخلَ حدود جوازي الجديد وحده.

ولكن لفوف لا توجد على أية خريطة. إنها توليفة الشاعر من مخيلته، وحنينه، وحاسته الجمالية.

هاجر زاغايفسكي، بدوافع شخصية الى باريس، وفيها نضجت موهبته. أصبح شعره كما وصفه الشاعر ميوش «تأملات في الزمن المتدفق حيث يلتقي ما هو تاريخي بما هو ميتافيزيقي». عيني في التفاصيل، وينفر من التجريد، وعادة ما يربط الماضي بالحاضر بصورة غير متوقعة، بحيث يصبح الزمن في قصيدته في طيات عدة. الشاعر يحاول أن يعبّر عما يتخفى وراء صراعات الواقع المادي الظاهر. فهذا الواقع وحده لا يكشف عن معناه الحقيقي. المعنى الحقيقي يبقى مخفياً في الاسطورة. لأن المعنى الخفي لا يتكلم بل يغني.

القصائد المختارة صدرت أخيرا عن دار Faber and Faber. مجموعة منتخبة من القصائد المبكرة، ومجموعات مثل «تريمور» (1985)، و«كانفاس» (1991)، و«التصوف للمبتدئين» (1997)، بالإضافة الى قصائد جديدة لم تنشر في مجموعة.