حروب إلغاء تشنّ على الرواية السورية من الداخل والخارج

عمليات تطهير مع تقبيح للسمعة وحنا مينا لا يقرأ روائيي بلده

TT

ينقسم الرأي النقدي الشفهي في الثقافة السورية، حول الرواية السورية المنشغلة بالتاريخ إلى اتجاهين، يحاول الأول أن يتفهم سر انجذابها نحو التاريخ القديم أو الحديث، ويسعى إلى مراجعة هذه الظاهرة، ليعثر على خصوصيتها، والأسباب الموجبة التي كدست هذا الطابور الكبير من الروايات التاريخية، بينما يدينها الثاني ويتهمها بأنها ذهبت إلى هناك «هربا» من الواقع، لا للبحث عن الهوية، أو لمساءلة التاريخ، أو لاكتشاف الحاضر من خلال الماضي، أو للمعرفة.

غير أن كلا الفريقين آثر أن يثرثر بآرائه في المقاهي، والجلسات الخاصة، وتقديم النصائح الأبوية، أو يكتفي بجذاذات من الآراء في الصحف اليومية المهملة. فلم نشهد دراسة واحدة مهمة تعنى بإظهار العلاقة بين الرواية والتاريخ، أو تنقب في المنجز الروائي المحقق، وتقدر فنيا المدى الذي اخلص فيه كل روائي من روائيينا لفن الرواية، أو لمنطق التاريخ، على الرغم من أنّ بعض الروائيين كتبوا سلاسل من الروايات الضخمة في هذا المضمار (نبيل سليمان، ناديا خوست، عبد الكريم ناصيف). ولم نلق، في الوقت نفسه، بحثا واحدا جادا يحاسب الروائي على «هروبه» من مواجهة الواقع الذي يدعي الجميع تمثيله، أو يرصد أشكال تجلي هذا الانسحاب، أو التهاون أو الانكسار في استبدال الواقع بالتاريخ. بل إنّ «الدراسات» أو «الأبحاث» أو المقالات، التي كتبت لنقد بعض هذه الأعمال، أو لتقييم تجربة أحد الروائيين، انحرفت عن مهام النقد الأدبي، في إزاحة طريفة يستخدم فيها الدارس موضوعَََ الرواية من أجل تمرير خبرة سياسية ما، أو استقصاء افتراضات فكرية، أو إنتاج «نظرية» ما في التاريخ، أو لعرض مجاني مدحي أو قدحي يقول الباحث فيه عن نفسه أكثر مما يقول عن الرواية ذاتها.

والحاصل فقد غاب أمران هامان: المتابعة النقدية التي تضع تلك الروايات في سياقها التاريخي الذي يجيب عن سؤال أو عن أسباب الظاهرة، والمتابعة الفنية التي تقدر قيمة هذه الروايات، ومكانتها الأدبية، ودورها في تطوير فن الرواية في سورية والعالم العربي.

ثمة أسئلة كثيرة أخرى، لم نجب عنها أيضاً: ما هي الرواية التاريخية؟ هل نسمي كل رواية عن الماضي رواية تاريخية؟ (لا توجد في رأيي رواية تكتب عن الحاضر، كل كتابة روائية أو قصصية هي كتابة عن ماض، أو عن مستقبل، وهذا أمر يفرضه الزمن، فالحاضر ضيق ومحصور بين امتدادي الزمن).

هل تستمد الرواية قيمتها من موضوعها أم من تقنيته؟ أسئلة تبدو بديهية، وقد أجيب عنها في أكثر من مكان، وفي أكثر مناسبة. ومع ذلك، فإن حال الرواية السورية ما يزال يمضي خارج مضمار هذه الأسئلة، فحجم الإنتاج الروائي ـ كميا على الأقل ـ لا يعادله بأي شكل حجم الدراسات التي تتبعت الرواية. لا في سورية، ولا في العالم العربي. وقد انتقلت عدوى الإهمال والتقبيح إلى المحيط العربي، وبتنا نسمع ونقرأ آراء عن انعدام الجدية في الرواية السورية، أو ضحالة المواهب، أو غياب الرؤية، أو الركاكة الثقافية والعامية الفكرية ـ كما وصفها الشاعر عباس بيضون في جريدة السفير ـ دون أن نحظى بدراسة تتثبت من أقوال أصحابها، وبهذا تكون الرواية السورية قد وقعت ضحية عملية تطهير، أبطالها ينتمون إلى فكي كماشة. فالقائلون «بالهروب» تجاهلوا دائما الوضع السياسي والأمني الضاغط، الذي أعاق حرية التعبير، واللافت هنا أن المراقبة الأمنية انطوت على قراءة متمعنة، ومعرفة يقينية تخشى عاقبة إطلاق الحريات كافة، ومنها حرية التعبير بالطبع، أما ازدراء الرواية السورية فقد نجم عن عدم الاطلاع، أو القراءة السياحية، أو نمائم المقاهي والملتقيات، أو التعتيم الإعلامي.

والمؤسف أن الروائيين السوريين أنفسهم شاركوا في قضية إهدار اسم الرواية السورية، هنا ثمة حرب إلغاء، يشنها كل واحد ضد الآخرين، فمنذ سنوات لم أقرأ لروائي سوري كلمة تقريظ، أو عرضا محبا، أو تحية، أو دراسة نقدية لرواية سورية، بل إنّ روائيا مثل حنا مينا يجاهر في التلفزيون بأنه لا يقرأ الرواية السورية (قارنوا بنجيب محفوظ)، لا أناصر الرواية السورية في مطلق الأحوال، لكن الإرث الروائي في سورية جدير بقراءة شاملة، تستكشف الأسماء التي شاركت في صناعته، منذ شكيب الجابري، حتى آخر اسم شاب كتب رواية واحدة.