ماذا تفعل بنا الصورة؟ وماذا نفعل بها؟

كتاب لبناني عن مصائرنا الزائلة وخلود الصورة

TT

لنفترض أن «نعومي كامبل» جاءت إلى لبنان، ونزلت في ذلك الفندق العالمي الطراز، ونامت على تلك الفرشة الوثيرة في غرفة ثابتة الحرارة، وأكلت من مآكل مدروسة النكهات ومحسوبة السعرات الحرارية، وخرجت وفق برنامجها الصارم إلى أماكن العرض في سيارات قاتمة الزجاج مكيفة الهواء، وسلكت إلى أماكن محددة في دقة شديدة. إذن هل زارت نعومي كامبل لبنان؟ أم ينبغي أن نسأل: هل الأحياء التي لم تتشرف بمرورها موجودة في لبنان؟

تتناسل من هذه الفرضية أسئلة يجمعها بلال خبيز في كتابه الجديد «الصورة الباقية والعالم الزائل».

يستمد هذا الكتاب حجته من خوف الكائن من الزوال، لأن الكائن يستعين على الزمن بالسرد. فبالسرد وحده يمكن لحياة الكائن البشري أن تتكثف وتتطاول إلى ما لا نهاية، كما يطمح إلى معالجة أثر الاستعانة بالصورة في الرواية والقص، استعانة ملحة وضرورية في انتظار أن ننجح في صناعة صور تعيد للحياة قيمتها البسيطة والعميقة معاً وفي آن.

اعتقال لحظة هاربة في صورة، أو تأبيد حالة عابرة في نص من شأنه أن يقيم مديحاً متمادياً لحياة الكائن ويجعلها أعلى قيمة. لكننا نجهد في صنع هذه القيمة حتى نكاد نغيب عن وقائع الحياة نفسها.

وإذا كانت الصورة كذلك، أي أبقى وأقرب إلى الخلود من المصوَّر نفسه، يمكننا القول، إذن، أن الخرائط أبقى من المدن، والكتب أبقى من أنظمة الحكم. ويفترض ذلك أن تقوم الصورة والخريطة والكتابة لوحدها، وتعيش في عالمها الخاص بغض النظر عن فناء العالم أو بقائه. وهي أيضاً على الأرجح ليست في خدمته، بل هو في خدمتها. وفي كلام أدق تصير المدن مجرد صورة للخرائط، وتصير الكتابة أشد أهمية من الأحداث، بل أن الأحداث تحدث لمجرد أن يتسنى للكتابة ذكرها وتصير الصورة حقيقة الكائن الوحيدة.

يستنتج الكاتب من حالات شهيرة ما سهونا عن الانتباه له. «مايكل جاكسون» الذي ذهب في الحرص على حياته إلى حد محاولته محاصرة كل أسباب الموت الصناعية، فمنع جسده من الاحتكاك المباشر بأي عنصر طبيعي غير معالج. وغدا يتنفس هواء مكرراً، ويشرب ماء معالجاً ويتقنع حتى أطراف أصابعه بالثياب المانعة للاحتكاك. حوّل نفسه مثالاً معولماً، وجعل البربرية صفة الطبيعة، واعتبر الإنسان ضحيتها الأولى. كما استعرض سلوك «جاكسون» هذه القدرة البشرية على العيش في تمرد على الشروط الطبيعية، رغم أن العلم يقر بتحسن شروط العيش المعاصر عن العيش التاريخي، وأن متوسط العمر إلى ازدياد مطرد. هذا المنطق لم يحل دون لجوئه إلى العيش في كوكبه النقي، وشرط العيش في هذا الكوكب أن يبقى ساكنه في موضع مراقبة وتلصص. وجاكسون لم يغادر كوكبه إلاّ مصحوباً بعدسات المصورين.

أمّا بورخيس فيملك سحراً يدفع كبار المصورين في العالم لتصويره، ما الذي يجعل بورخيس دون غيره نجماً في التصوير الفوتوغرافي. ليست الشهرة الأدبية وحدها، بل ميزة أساسية تتعلق بانعدام قدرته على رؤية وجهه في المرآة. لذلك فهو يقدم وجهاً غير شخصي، بريء وفج وبرّي في الوقت نفسه، لأنه لا يستطيع أن يزرع في وجهه علامات تدل على بعض شغفه. ليس قادراً على تبيّن الحد الفاصل بين حداثة وجهه وتاريخه الطويل. بورخيس وجه يكتمل بعينين مطفأتين.

أما مصدر المعنى المغاير الذي يحمله وجه بورخيس فيتعلّق بأسبقية الاسم، فالوجه الشائع مسبوق دوماً بالاسم اللامع الذي يجعل منه فرداً من دون حاجة لمعاينة المرآة، أي إنها إحالة على الجهد الجبار الذي يبذله صاحب الوجه في جعل اسمه يقوم مقام وجهه بالتعريف عنه. لذلك لا نطلق على النمر مثلاً اسم علم، لأنه لا يفقد صفاته بتقدم السن، فالأنياب والمخالب الكليلة تظل قادرة على القتل بالنسبة للإنسان، على النقيض من حالة البشر الذين لا عبرة لوجوههم من دون الأسماء اللامعة. الوجه يكتسب حضوره من صفات مضمرة في ذهن الناظر، ولا يحيل على الفردية المعتنى بها في عقل الحداثة ووعيها، بل على العزلة والتوحش اللتين لا يفصلهما عن الفردية سوى حد المرآة الجارح.

صورة الإعلان التجاري تحاول أن تجعل وجه نجم الإعلان حجاباً للسلعة. فالإعلان عن الصدرية النسائية مثلاً يتوجه إلى الرجال، لأن هذا النوع من السلع لا تعرف عموميتها إلاّ في الواجهات. ما إن تخرج من أغلفتها حتى تختفي تماماً عن النظر العام، وتصبح من الخصوصيات. وتوجُّه العارضة للرجال يسلك طريقاً كثيرة التعرج نحو المستهلك ولا يخاطبه مباشرة.

العارضة في هذا المجال كناية عن المرأة في جنسها، فعلى الرغم من أنها تملك اسماً ولها عينان لامعتان ومتحديتان إلا أنه لا مكان للغيرة منها، لأن النجمة لا تكون نجمة إلا إذا حازت شرط القبول من جماهيرها، وبحيازتها لهذا الشرط تستطيع أن تجر جماهيرها في الدروب التي تقترحها عليهم. هكذا بوسعنا أن نفهم على أي أسس تحتل أحزمة «شاكيرا» وسراويلها الشوارع وتلتصق بأجسام المراهقات في العالم أجمع.

وإذا قارنا بين اللوحة والتصوير الفوتوغرافي، نرى أن بوسع الصورة الفوتوغرافية أن تظل معلقة بالجسم، على النقيض من اللوحة التي سرعان ما تعيش حياتها الخاصة بعيداً عن الموديل نفسه. فجمال «مارلين مونرو» يأسرنا ونكاد نأسف أسفاً عميقاً لموتها، لكننا لا نقيم وزناً لحياة «الموناليزا». لأنه في الصورة يبدو الجسم هو المادة الفنية الحية، أما في اللوحة فقدرة الرسام على بث إشارات ما خلالها هي عناصر الجذب والمهارة.

يستطيع التلفزيون إدعاء القدرة على نشر أنماط من المعرفة، ومشاركة المشاهد في صنع القرار وإبداء الرأي بخلاف السينما السلطوية البث والإبداء، كما يشير إلى الاهتمام بالراهن الجاري حدوثه أكثر من اهتمامه بما جرى. على هذا لا يتوجب على العراقيين بكاء موتاهم من ضحايا النظام السابق الذين اكتشفت رفاتهم في المقابر الجماعية، فالحدث اليوم هو اكتشاف الرفات لا حدوث الموت.

التلفزيون بخلاف السينما التي على نجومها أن يكونوا نجوماً حتى في نومهم. لا يتحمل نجماً واسع الثقافة وبالغ الذكاء، لأنه يريد أن يوحي بأن النجومية في متناول يد المشاهد. وما ينقص المرء للحصول عليها، سوى قليل من الحظ وبعض المصادفات السعيدة.

الصور التي تبثها التلفزيونات للحروب أحوج ما تكون إلى التعليق عليها. فهذه الصور عاجزة على النطق وحدها من دون مساعدة اللغة، كما أنها لا تستطيع أن تنشيء لغتها الخصوصية، وذلك ليس لنقص في عدد الضحايا، أو لكسل في همّة الصحافيين، بل للامبالاة التي يجابه بها الموت. فتصبح الحروب وكأنها دون مكان. ويصبح موت الأطفال ليس بسبب نقص الأدوية، بل لفرط العار الذي جعلنا نقبل تحويلهم عبرة ورسالة يبعث بها كلا الطرفين المتحاربين للعالم أجمع.

كتاب يلتقط العادي واليومي، ويعيد صياغته، ليعصر منه الدهشة من عدم انتباهنا له. في وقت نسعى جميعاً لنتحول إلى صورة ينبغي عليها أن توحي بحياة الميت لا بموته، وتنبهنا إلى التأخر الطفيف الذي حال دون استمرار الحياة. فكم يبدو مروعاً أن نشاهد مصائرنا الفاجعة على التلفزيونات، وأن نطنب في وصف ملكاتنا التي لا تملك أن تحتفظ بقدرتها إلاّ في «ألبومات» يستعيدها النظر وتسقط دون روح لاستحالة الخلود واختيار المستقبل.