نزلاء السجن العربي الكبير ومحنة بناء الأسوار؟

عالم من الجدران المرئية واللامرئية

TT

في عام 1973 صدر للشاعر محمد الماغوط كتاب شعر بعنوان «غرفة بملايين الجدران». من أبسط الأمور أن يتساءل القارىء عن هذا العنوان الغريب! هل هو مجرد عنوان بلا دلالة صادر عن خيال فوضوي لا ضابط له، أم هو صادر عن وعي تهكمي رمزي عرف به هذا الشاعر الذي لطالما اعتبر الحرية موضوعه الأول دائماً؟ هل كان الماغوط يرى في كل خطوة يخطوها جداراً ينصب أمامه حتى خيل إليه أن ثمة عدداً لا نهائياً من الجدران في غرفة بحجم الوطن؟ لكن كان هذا في مطلع السبعينات حين كان الحديث عن الآفاق أمراً وارداً، فما عسى الشاعر أن يقول اليوم وقد تعددت الجدران ولم يعد ثمة من يتحدث عن أفق؟ وهو الذي قال فيما بعد: «سأخون وطني»؟!

ثقافتنا ثقافة شعرية، بدوية أو ريفية في زي مدني، وليس الذم هو المقصود، بل إنها ثقافة تحب الفضاء والخلاء ولا تحبذ الجدران، ولكنها محكومة بالجدران التي تنصب لها، والجدران التي تنصبها هي لنفسها!

حين سقط جدار برلين عام 1989 لم يكن الحدث يخص الألمان وحدهم، بل كان ببعده الواقعي والرمزي يخص العالم بأسره، والنخبة السياسية والثقافية بشكل خاص، ففي الوقت الذي كان العالم يشاهد عبر الشاشات جموعاً كبيرة من الناس تنهال بالمعاول والمطارق والأقدام على الجدار، وترافق ذلك مع التبشير الدولي بولادة نظام عالمي جديد، وكان بانهياره وكأن العالم قد انفتح على أفق جديد، و قد سقط جدار« الأبارتيد« العنصري في جنوب إفريقيا أيضاً، لكن سرعان ما ارتفعت جدران جديدة، مرئية مثل الجدار الصهيوني في فلسطين المحتلة، وغير مرئية مثل الجدران بين الحضارات والأمم. حتى صارت كلمة »جدار« من الكلمات التي تتردد بوفرة في الإعلام وفي أحاديث الناس، وترسخ المعنى السلبي لهذه الكلمة، باعتبارها رمزاً للإكراه، ورمزاً للعزل والتضييق وحجب الآفاق.

لكلمة جدار مترادفات عديدة ولا بد أن معانيها متقاربة ولكن غير متطابقة، من هذه المترادفات: الحائط، السور، السياج، الحاجز، السد، الستار، الخ ... وكل هذه المفردات والمعاني خاض فيها وفصل واستفاض بدر عبد الملك في كتابه: «الإنسان والجدار» الذي يكاد، لم يترك شيئاً لم يذكره بهذا الخصوص، و قدم كتاباً أخاذاً، تحدث فيه عن الجدران بالمعنى التاريخي والعمراني والسياسي والثقافي والفني. وأنا هنا أجد نفسي مضطراً أن أقترب وأبتعد عما لامسه في كتابه الذي يستحق القراءة قبل الإشادة. وإذا كان المؤلف قد أبحر وترحل في المعاني من العام إلى الخاص، ومن الخاص إلى العام، في علاقة الإنسان بالجدران، وتأثير الجدران على الإنسان، فإنني هنا سأحاول أن أقترب مما لامسه الماغوط، وأتحدث عن الجدران في حياتنا الثقافية.

نحن هنا في دمشق، نعيش في مدينة مسورة بالأساس، لها سور قديم وسبعة أبواب، ويقال عنها إنها أقدم مدينة مأهولة في العالم، ورغم أنها مدينة تجارية وتعرضت لموجات من الغزاة، وكانت عاصمة في عهد الأمويين، كما هي اليوم عاصمة، توصف بأنها مدينة مغلقة، وسكانها الذين يتحدرون من قوميات عديدة: عرب وأكراد وشركس وأتراك، لكنهم تعربوا وتشوموا جميعاً وغلب عليهم طابع المدينة المحافظ. هذه المدينة، فاضت عن أسوارها القديمة، وتوسعت في العقود الأربعة الماضية بسبب الهجرة من المدن والأرياف إلى العاصمة، وصار السور القديم الذي بناه الرومان مع القلعة، جزءاً من المدينة القديمة المأهولة بالسكان والتجار والصناع والمقاهي والمطاعم ودور العبادة، والحمامات التركية، تجتذب السياح من كافة أنحاء الأرض.

إذاً سقط السور أو الجدار دون أن يتلاشى . وفي عشرينات القرن العشرين قسمت سوريا إلى دويلات، ورسمت بينها الحدود التي حاول المستعمرون الفرنسيون أن يفرضوها، ولكن صحوة وطنية شاملة تخطت هذه الحدود آنذاك وألغتها، ويذكر أن معظم الأسوار والقلاع والحصون والثكنات المسورة موروثة عن الرومان والفرنجة ثم الفرنسيين، وقليل منها ما هو عربي أو إسلامي، وبعد رحيل الغزاة ظلت تستخدم هذه المواقع بمثابة رموز للدولة ولتسلط جهازها الحاكم،استخدمت كسجون ومعتقلات عاتية، حتى استعيض عنها منذ فترة قريبة بمعتقلات حديثة، ومن أشهرها: سجن قلعة دمشق، وقلعة أرواد، وقلعة القدموس، وسجن المزة، الذي كان ثكنة وسجناً فرنسياً، قبل أن يصبح سجناً وطنياً!

ولكن في الوقت الذي تهدم فيه جدران أو تنهار، تقام جدران جديدة من نوع آخر، وفي الوقت الذي تلغى فيه سجون عتيقة، تبنى سجون جديدة وكبيرة. وثمة عبارات تقال أحياناً تعبيراً عن الإحباط من جراء التضييق وانعدام الفرص، كأن يقول السجين الذي خرج من السجن: خرجت من السجن الصغير إلى السجن الكبير. وهذا ما يوازي قول الماغوط غير العبثي «غرفة بملايين الجدران».

ليست الجدران فقط هي تلك التي نستطيع أن نلحظها ونحسها أو نستطيع أن نتحاشاها ونبغضها عن قرب أو بعد، وليست تلك التي تبنيها السلطات للعقاب، وهذه مهما كانت كثيرة فهي قليلة بالنسبة إلى تلك الجدران غير المرئية التي يقيمها الناس فيما بينهم، ويعززونها ويدافعون عنها وكأنها جزء من وجودهم! بعض هذه الجدران طبيعي، اعتاد عليه الناس أفراداً وجماعات، مثل الجدار الذي يفصل بين الملكيات والعقارات الفردية والعائلية، وهذا الجدار أو السياج محمي بالعرف والقانون، لكن ماذا عن الجدران الأثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية داخل المجتمع الواحد، والتي أخذت تطفو على السطح بشكل شبه هستيري، وتطال أفراد المجتمع وبشكل خاص بعض المثقفين والمتعلمين منهم، ولا ينجو منها بعض الكتاب والصحافيين وحتى بعض السياسيين الذين احتضنتهم أحزاب علمانية وعلمتهم على نفقتها في بلدان الغرب والشرق؟!

وما كان يقال همساً وبحياء، أصبح اليوم يقال علناً وبلا حياء، وما كان يحذر منه آباؤنا المساكين الأميون خشية على الوطنية، ولنبذ التفرقة، يعد اليوم سذاجة أو غيبوبة وطنية مضت إلى غير رجعة، حين اعتقد الآباء أنهم بنوا قلعة، ولكن تبين أنها لم تكن سوى وهم، أو جدران منفصلة عن بعضها، أو أن الأبناء لم يحموها، وليسوا على استعداد للدفاع عنها، ويكفي أن يتمسكوا بالجدران!

التفكك، والتمترس، والاصطفاف يتجه نحو أن يصبح له قوة الواقع، ولأن يكون ثقافة جديدة، أو(علماً من فروع الأنثروبولوجيا)، كما يزعم البعض، ويرون أن تجاهل هذا (العلم) صادر عن غباء وجهل!

في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي حين تأسست الأحزاب السياسية (العلمانية) المتصارعة والمتحالفة بأنواعها، أقامت فيما بينها الجدران، ورسخت ثقافة الإلغاء والتناحر، وكان عدد الجدران يوازي عددها القليل، ولكن اليوم تعددت الجدران حتى داخل الحزب الواحد، وانشق كل حزب إلى عدة مجموعات، تفصل فيما بينها جدران لا تخلو من الملامح الطائفية، لا مرئية لكنها محسوسة. هل هو نكوص أم تقدم؟ البعض يراه تقدماً، وهزيمة للشمولية القومية والدينية والأممية، وعودة صحية إلى المكونات الصغرى والتي تم القفز فوقها قسراً أو قهراً. ومنذ أيام قليلة ضجت البلاد بخبر ذبح شابة متعلمة من قبل أهلها بشكل مروع، بعد أن استدرجت إلى وليمة مصالحة خادعة، وأفظع ما في الأمر أنه تم وسط طقس احتفالي تعجز الكلمات عن وصف وحشيته، لأن الشابة تزوجت شاباً من طائفة أخرى!

إن الجدران ترتفع، ونعيش تحت وطأة ثقافة مسنودة لا تفتأ تكرس الانقسام والعزلة، وتتحدث بشكل لا مبرر له وبلا خجل عن حدود صارمة بين سكان المدينة والريف، وبين الغرباء والأصليين، وبين المتخلفين والمتحضرين، والمدنيين والعسكريين، والحداثويين والتقليديين. ومن جهة أخرى يتحدث أهل السلطة ومن لف حلفهم عن الوطنيين ولا وطنيين، وعن زوار السفارات، والغزو الثقافي، ودعاة التطبيع، والموالاة والمعارضة.

وهكذا« نكتشف أننا مسيجون بالجدران الداخلية والخارجية اللامتناهية»، على حد قول بدر عبد الملك، ولكن الجدران مصيرها أن تتحطم في النهاية وتزول.