أثري من أتباع «علم الآثار التوراتي» ينبش في النفايات ويقول: «وجدتها»!

ثلاثة أحرف على ختم قطره 1 سم تقيم إسرائيل ولا تقعدها

TT

عالم الآثار غابي بركاي، نجم في إسرائيل، ومن الممثلين المخلصين لمنهج في الآثار يمزج السياسي بالآيديولوجي معتمدا التوراة كمرجع. وهو منهج ولد منذ أربعة قرون على الأقل، عندما بدأ الأثريون في الغرب حملات تنقيب واسعة في فلسطين، حاملين معول الحفر في يد، وفي الأخرى الكتاب المقدس، باحثين عن جغرافية التوراة. ورغم إفلاس هذا المنهج، إلا ان بركاي استطاع أن يعيد إحياء الأمل في أتباعه أخيرا، بفضل ختم صغير وجده بين النفايات.

وجه أثريون من مختلف أنحاء العالم، ومن بينها إسرائيل، انتقادات للمنهج الذي يعتمد جغرافية التوراة لإثبات حقوق سياسية لليهود في فلسطين، إلا أن بركاي، استمر، بشكل دؤوب، متمسكا بوجهة نظره، وقدم تكرارا تفسيرات عديدة لاكتشافات أثرية تؤكد الحق اليهودي في فلسطين. وتحول إلى نجم في عالم الآثار التوراتي، ولكنه أكثر من غيره كان يدرك الضعف الذي يكتنف منهجه، لهذا شعر في ظهيرة الأربعاء 28 أيلول (سبتمبر) 2005، وكأن السماء فتحت له أبوابها، فما الذي حدث؟

ختم مكسور

في تلك الظهيرة، كان فريق اثري يقوده الدكتور بركاي وعالم آثار آخر هو تسمي تسفيغ، يبحث في ركام من الأتربة والنفايات، كانت دائرة الأوقاف الإسلامية قد أخرجتها قبل ستة أعوام، خلال أعمال الترميم في المصلى المرواني، عندما وقعت في يده قطعة أثرية صغيرة. ولم يتمالك بركاي نفسه من المفاجأة وبدون تمحيص، أصبح على يقين انه عثر على قطعة تعود إلى ما يطلق عليه عهد الهيكل الأول، أي في القرن السادس قبل الميلاد. وسارت الأحداث في ذلك اليوم، وكأن مسرحا اعد لها، ففي تلك الأثناء، كان يعقد في منطقة سلوان بجوار المسجد الأقصى، المؤتمر السادس للحفريات، ولم يكن هناك مكان انسب من هذا المؤتمر الأثري الايديولوجي، الذي يشارك فيه علماء من مختلف دول العالم، ليعلن بركاي اكتشافه. وقف بركاي أمام المؤتمرين وقال انه وبعثته عثروا على ختم مكسور من الطين كتبت عليه ثلاثة أحرف عبرية قديمة، من عهد الهيكل الأول، ومصدره إسطبلات سليمان (المصلى المرواني)، مما يشير إلى أن تحت ذلك المكان الكثير مما يكشف عن تاريخ مملكة يهودا، ويحقق أخيرا حلم أجيال من الأثريين بصدق جغرافية التوراة. وأبدى الحاضرون تأثرا بالغا، خصوصا عندما عرض بركاي الختم أمامهم. وتبين من الختم، انه عبارة عن كتلة من الطين المحروق، مساحتها اقل من سنتيمتر واحد، وان الأحرف التي كتبت عليه، حسب بركاي هي (يهو).

تفسير آيديولوجي

ورغم اعتراف بركاي أمام المؤتمر، انه يجب إخضاع هذه القطعة إلى دراسة، سارع بكثير من الحماس لتفسير ما كتب على تلك القطعة قائلا «كانت هذه دعوة سلام مباشرة من ملوك عائلة داود»، وأضاف «بالإمكان وكما يبدو معرفة أمور جديدة من الأحرف الثلاثة على الختم، ولكن بسبب عدم كشفها بصورة نهائية فلن ينشر مضمونها الآن». وأكد أن أهمية اكتشافه تكمن «بأن هذه هي المرة الأولى التي يتم العثور فيها على كتابة من عهد الهيكل الأول مصدرها المؤكد هو داخل جبل الهيكل».

وجبل الهيكل هو التسمية الإسرائيلية للحرم القدسي الشريف، حيث تسعى جماعات يهودية إلى هدمه لإقامة ما تطلق عليه الهيكل الثالث.

وساندت الدكتورة ايلات مزر من معهد الآثار في الجامعة العبرية، ما توصل إليه بركاي، وقدمت خلال المؤتمر تلخيصا أوليا للحفريات الجديدة شمال قرية سلوان، التي تسمى بالمفهوم الإسرائيلي (مدينة داود)، مشيرة إلى انه عثر في المكان على مبنى كبير، قدرت انه يعود للقرن العاشر قبل الميلاد، وان هنالك دلائل بأن يكون هذا المبنى قصرا، بناه الفينيقيون للملك داود، كما جاء في كتاب (التاناخ) اليهودي.

ولم تترك مزر الفرصة من دون الإشارة إلى الختم مؤكدة، وسط الانفعال والتصفيق، بأنه يعود إلى عهد الهيكل الأول، وان اسم (يهو) الذي وجد مكتوبا عليه يعود إلى شلميهو بن شبي، الذي كان وفقا لما ورد في (التاناخ) أيضا وزيرا كبيرا في مملكة (تصدكيهو) اليهودية.

موقف إسرائيلي مضاد

هناك أثريون إسرائيليون، يدركون بأن ما جرى لا يخرج من باب الدعاية، وسعي بعض الأثريين إلى الشهرة، بأي ثمن، وان كان بامتطاء الكتاب المقدس. ومن هؤلاء عالم الآثار الإسرائيلي البارز مازار بن دوف، الذي عمل في الحفريات منذ الاحتلال في حزيران (يونيو) 1967، ويكاد يكون على دراية بكل حجر أخرج من باطن القدس.

وقال بن دوف، خلال مناظرة بينه وبين بركاي في القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، ان هناك شبهات تزييف كبيرة فيما يتم الحديث عنه، وان الكلام عن قطعة أثرية عثر عليها في أكوام من النفايات والأتربة، وليس في مكانها الذي يقال انها تعود إليه وهو المسجد المرواني أو إسطبلات سليمان.

وأشار بن دوف الى ان «الحديث يدور عن عمليات حفر تمت في المكان، ثم وضع الأتربة والركام في سيارات تخرج بحمولتها وترميها في مكان بعيد، ثم يأتي شخص ويقول عثرت على قطعة أثرية، وقبل أن يدرسها يعلن أنها تعود للهيكل الأول، أي علم هذا؟ وأي طريقة بحث؟ ومن يضمن ألا تكون القطعة التي يتم الحديث عنها قد زيفت. فمن غير المعقول أن يأتي اثري ويقول انه اكتشف كتابة من ثلاثة أحرف ليقدم تاريخا للقدس».

وازاء هذا الهجوم، رد بركاي بشدة على زميله ووصف ما يتفوه به بن دوف بأنه «كلام تافه». وقال: «رغم أن الختم مكسور ويحتاج إلى عمل وترميم، إلا أن الأحرف واضحة وهي (يهو)». ولكي يلطف الجو، بعد أن انتبه بأنه فقد أعصابه، قال مازحا: «بالطبع ليس المقصود نتنياهو»، في إشارة إلى الشخصية السياسية الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.

وانتهى السجال بين الاثنين بتشكيك بن دوف، بما تم العثور عليه.

موقف فلسطيني

وكان هناك غير بن دوف من أثار حفيظتهم الاكتشاف الذي أعلنه بركاي، وروجت له وسائل الأعلام الإسرائيلية كثيرا، وهو الجانب الفلسطيني، الذي ينظر بخطورة لكل اكتشاف من هذا النوع، لأنه يعزز المطالب اليهودية بهدم الأقصى وبناء الهيكل.

وواجهت دائرة الأوقاف الإسلامية منذ تنظيف المصلى المرواني، قبل ستة أعوام، حملة إسرائيلية كبيرة عليها، شارك فيها ايهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، وتم وصف تنظيف المرواني بأنه جريمة أثرية طالت ما أسماه الإسرائيليون تاريخ الشعب اليهودي، وفي الواقع أن الحملة الإسرائيلية كان لها هدف آخر، وهو الدخول إلى المصلى المرواني، بتخطيط من باراك نفسه، وذلك موضوع يخرج عن نطاق هذا التقرير.

المهم أن جامعة بار ايلان التي يدرس فيها بركاي، حصلت على ميزانية للتنقيب في الأتربة والنفايات التي تم رميها من قبل الأوقاف. وفي حين لم يتحدث الأثريون الفلسطينيون الذين يعاني اغلبهم من عدم تأهيل ونقص مهني، ظهر في الواجهة الشيخ عكرمة سعيد صبري المفتي العام للقدس والديار الفلسطيني، الذي نفى أن تكون الأتربة التي أخرجت من المرواني أثرية قائلا انها تعود «لأواخر العهد العثماني عندما تعرض الأقصى إلى زلزال وقتها، ولا يوجد فيها أي آثار تذكر لأنها أتربة حديثة العهد». والواقع ان كلام المفتي، ليس دقيقا تماما، والمقصود منه اتخاذ موقف الدفاع ضد هجمة شرسة متوقعة. وأضاف صبري أن الادعاءات الإسرائيلية بأن الختم المكتشف يكتسب أهميته من أنها المرة الأولى التي تكتشف فيها قطعة أثرية تعود لزمن الهيكل الأول «يدل على أن الادعاءات السابقة عن وجود آثار عبرية هي زائفة باعترافهم وتتناقض علميا وتاريخيا مع الواقع، وهذا يدل على استمرار كذبهم في الماضي والحاضر والمستقبل لأن من ثبت كذبه في السابق يؤكد استمرار كذبه في اللاحق».

ومنذ الإعلان عن الختم، قامت إسرائيل ولم تقعد، والفلسطينيون يأملون أن تنتهي القصة مثل قصة أخرى شبيهة، عندما أعلن المعهد الجيولوجي الإسرائيلي في بداية عام 2003 عن اكتشاف حجر أثري مصدره المصلى المرواني ايضا، عليه نقوش تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وتشبه أسلوب كتابة سفر الملوك في العهد القديم. وكانت ردة الفعل الفلسطينية آنذاك هي اتهام المعهد بالتزييف لأهداف سياسية، ولم تمض ستة اشهر حتى عقدت دائرة الآثار الإسرائيلية مؤتمرا، أعلنت فيه أن الحجر المذكور فعلا مزيف، وذلك بعد أن تم فحص الحجر والنقوش من قبل لجنتين متخصصتين عملتا لمدة شهرين.

وسواء استمر الجدال حول الختم أو انتهى، إلا أنه لن يكون آخر المطاف حول مدينة كل ذرة تراب وكل حجر فيها يمكن أن يعني شيئا، إنها القدس.