غموض وصية ألفريد نوبل وراء مأزق جائزته للآداب

عبارة «الأدب المثالي» تحير «الأكاديمية السويدية» منذ 100 سنة

TT

تعلن الأكاديمية السويدية غدا عن اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب، التي ليست كغيرها من جوائز نوبل الأخرى، فهي لا يتقاسمها اثنان، كما هو حال غيرها، وشهرتها تطغى على كل الجوائز التي تكرم أصحاب الاكتشافات ذات الاهمية الكبيرة، إضافة إلى ان لها تعقيداتها، التي تعود إلى نص وصية الفريد نوبل نفسه، وهنا محاولة لفهم ما جناه الرجل على جائزته في غفلة منه، وما أثاره حولها من لغط وانتقادات، مستمرة حتى يومنا هذا

لعل الجزء الخاص من وصية الفرد نوبل، الذي يتعلق بمنح جائزة الأدب، هو من أكثر فقرات الوصية غموضا وعرضة للتأويلات حتى يومنا الحاضر. ويكمن خلف هذا الامر سببان: يتمثل الاول في أن الفريد نوبل لم يحدد وبوضوح الجهة التي ستتولى امر توزيع هذه الجائزة، كما هو الحال مع الجوائز الاخرى، إذ جاء في الوصية ان تقوم بتوزيع جائزة الأدب «أكاديمية في ستوكهولم»، ولم يشر الى ان المقصود بها الاكاديمية السويدية، التي اصبحت هي الراعية لهذه الجائزة، كونها تهتم باللغة السويدية وترعى مفرداتها وتتولى إصدار المنجد السويدي، الى جانب عدد من المهام الاخرى. وقد تم تجاوز هذه العقبة، وتظل الصعوبة الثانية متمثلة في فهم ما عبر عنه الفريد نوبل بـ«مثالية» الادب، كما ورد في الوصية. إذ حمّل الفريد نوبل جائزة الأدب، بالإضافة الى شروط جوائزه العامة الأخرى التي تنص على ان تمنح جوائز نوبل الى مبدعين قدموا للبشرية أفضل ما يمكنها الاستفادة منه خلال السنوات السابقة، وألا ينم التوقف عند جنسية المبدع وإنتمائه القومي، حمّل نوبل جائزة الأدب شرطين إضافيين، وهما أن يكون الكاتب قد أنتج أدباً هو «الأكثر تميزاً» وذا «اتجاه مثالي». وهذا الشرط الثاني هو الذي ظل ومنذ البداية عرضة لتفسيرات وتأويلات شتى.

شرطان أتعبا اللجنة وحيّراها

هل المقصود بالنتاج الادبي المثالي هو السير على ما هو معهود في تلك الفترة التي عاش فيها الفريد نوبل، الاخلاص التقليدي للبلاط الملكي والتقاليد السائدة ووصف الطبيعة الخلابة وما شابه، أم المقصود بالأدب المثالي الخارج عن التقاليد والهادف الى تمزيق شرنقة العادات والانطلاق للجديد غير المألوف؟ هذه الأسئله وغيرها، كانت وما زالت تبرز سواء في وسائل الاعلام أو في الدراسات المختلفة حول جوائز نوبل، كلما تم ترشيح أحد لنيل الجائزة. اذ أخضع مصطلح «المثالية» الى تفسيرات مختلف أعضاء لجنة الجائزة، وكذلك الذين تسلموا مهمة السكرتير الدائم في الاكاديمية والذين يملكون الرأي الحاسم في اختيار الفائزين.

أربع مراحل خلال مائة سنة

يشير السكرتير السابق للاكاديمية ستوره ألين الى أن تفسير مفهوم «المثالية» مرّ بأربع مراحل تغطي الأعوام المائة المنصرمة من حياة الجائزة. تشمل المرحلة الاولى الأعوام بين 1901 ـ 1912، حيث فهم سكرتير الاكاديمية الدائم حينها، كارل ديفيد فريسين كلمات نوبل «عملا متميزا وذا اتجاه مثالي»، على انها تعني عملا نبيلا، بما يعرضه وما يتضمنه من فلسفة حياتية. وانعكس هذا الفهم على تبريرات منح الجائزة الى عدد من الكتاب، ابتداءا من سيللي برودوم، مرورا بسلمى لاغرلوف وانتهاء بجيرهارد هاوبتمان.

ومن هذا المنطلق، فإن منح الجائزة لعمل، في تلك السنوات أخذ بعين الاعتبار مضامين بعينها، أريد مكافأتها.

بعد وفاة سكرتير الاكاديمية فريسين عام 1912، ومجيء أريك آكسيل كارلفيلدت، تغيرت الامور، ووصف كارلفيلدت بـ «منقذ الاكاديمية» بعد هبوط مركزها في زمن سكرتيرها السابق. وفي تلك الفترة ادى نشوب الحرب العالمية الاولى الى التفكير بمنح الجائزة الى كاتب ينتمي الى دولة صغيرة محايدة، وكان ان رشح الكاتب السويسري كارل سبيتلر لنيلها لعام 1914. غير أن الاكاديمية قررت عدم منح الجائزة لأحد في ذلك العام، كما ان سبيتلر الذي انحاز الى الكتلة المعادية للنازية الالمانية لم يحصل على الجائزة الا بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ. وبدلا منه رشح لعام 1915 الكاتب الاسباني بنيتو بيريز غالدوس، لكن الجائزة لم توزع في ذلك العام أيضا، بل أجل توزيعها الى العام الذي تلاه، مع انها أصبحت من نصيب الفرنسي روماين روللاند، وهو بالرغم من انتمائه الى بلد ضمن نطاق الحرب العالمية حينذاك، الا انه كان يقيم في سويسرا، وصنف على انه محايد، ونال الجائزة عن روايته «جان كريستوفر» التي حاول من خلالها ردم الهوة بين ما هو الماني وما هو فرنسي. وبذلك يمكن اعتبار ان الفترة بين اعوام 1912 ـ 1920 هي فترة سياسة الحياد، ففي عام 1913 نال جائزة الادب الهندي رامبرانت طاغور.

الحروب غيرت وجهات النظر

غير أنه في عشرينات القرن الماضي، ومرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى، اتسم تفسير وصية نوبل في مثالية العمل الادبي على انها «الانسانية النابعة من القلب»، حيث اعتبرها المؤرخ هنريك شويك بمثابة النظرة العالمية للإنسانية. ومن ابرز الذين نالوا الجائزة خلال تلك الفترة توماس مان.

أما في فترة الثلاثينات، فقد وجدت الأكاديمية أن العمل المثالي هو الموجه الى القارئ العادي، وكان السكرتير الدائم للاكاديمية بير هالستروم. اما فترة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ عام 1946 وحتى عام 1977، فهي فترة التجديد في الادب، ونجد أن غالبية الذين نالوا الجائزة هم من الكتّاب المحدثين، فحرمت النساء من الجائزة، بسبب الانحياز للحداثة، وهي المدرسة الادبية التي كانت تقف في تعارض شديد مع «النسوية»، والمساواة بين الجنسين. ومن ابرز الذين نالوا نوبل في هذه الفترة، السويسري هرمان هيس، والفرنسي آندريه جيد، والبريطاني ت.اس أليوت، والاميركي وليام فولكنر، والبريطاني برناند راسيل، والايرلندي صاموئيل بيكت، والسويدي بير لاغركفيست، وغيرهم من الكتاب العالميين المعروفين.

من الحداثة إلى التحديث

لكن قاعدة التجديد الأدبي والحداثة التي اتخذتها الاكاديمية في منح الجائزة فقدت معناها، بعد ان اصبحت على الصعيد العالمي في طيات التاريخ، وبدلا من ذلك بدأ التوجه نحو «التحديث» في داخل اطار المناطق اللغوية ذات الميزة الخاصة. ففي بداية ثمانينات القرن الماضي ذهبت الجائزة الى الروائي الكولمبي غابريل غارسيا ماركيز، وبعدها الى الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت، وفي عام 1988 الى المصري نجيب محفوظ الذي قال عنه السكرتير الدائم السابق للاكاديمية السويدية ستوره آلن، انه «يقف هناك في العالم العربي كمبدع معاصر في فن الرواية»، كما نال الجائزة الياباني أوى كينزا بورو، بالاضافة الى الكاتب الصيني المقيم في فرنسا جياو تسيانغ، في نهاية التسعينات، وذلك لـ «أن اعماله تفتح طرقا جديدة أمام فن الرواية والدراما الصينيتين»، كما ورد في تبرير منح الجائزة.

الانفتاح على الآخر جاء متأخرا

في الحقيقة ان المنحى الذي ساد في منح جائزة نوبل في الادب، أخذ، ومنذ نهاية السبعينات، يسير اتجاه مبدعين غير معروفين، على الصعيد العالمي. وذلك بعد أن اصبح الكاتب المعروف لاش غيللينشتين سكرتيرا دائما للاكاديمية في عام 1977. وهناك اسماء كثيرة أصبحت معروفة عالميا بعد نيلها جائزة نوبل، امثال نجيب محفوظ، وول سيونيكا، ديريك فالكوت، جياو تسيانغ، وغيرهم كثيرون، بعد أن كانت تدور في نطاقها الاقليمي، لكن جائزة نوبل في الأدب ظلت طيلة الاعوام المائة المنصرمة، بغالبيتها، من نصيب الكتاب الاوروبيين، إذا ما استثنيا بضعة أسماء من خارج القارة الاوروبية.

والسبب يكمن، كما يرى السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية هوراس أينغدال في أشياء عدة، إذا نظرنا الى السنوات السابقة من عمر الجائزة لوجدنا أن ميل الأكاديمية السويدية في البداية كان متجها نحو (اليوروسنتريزم) المركزية الاوروبية، حيث كان ينظر الى الدول الاوروبية الكبيرة على انها من الطبيعي أن تشكل قاعدة لانتاج كتّاب يفوزون بجائزة نوبل، كما أن المفهوم الذي ظلت تنطلق منه الاكاديمية السويدية لمعرفة الأدب، هو مفهوم أوروبي بشكل عام، ومنح الجائزة في السنوات الاولى من عمرها الى الشاعر الهندي راندبرانت طاغور عام 1913، كان خروجا عن تلك القاعدة. وهذا ما يعتبره أينغدال التفاتة من جانب الاكاديمية السويدية الى وجود إبداع أدبي رفيع المستوى خارج الحلبة الاوروبية، إذ انه وفي مراحل متقدمة من حياة الجائزة جرى الانتباه الى ان ثمة تقاليد أدبية في بقاع أخرى من العالم تختلف عن تقاليد الأدب الاوروبي ونتاجات تتمتع بصفات الأدب الراقي المميز.

وقد تمكنت هذه النتاجات من مخاطبة قراء مجهولين من خارج بيئة الشاعر الثقافية، وهذا قد عد، حينئذ، بمثابة اكتشاف جديد في الثقافة الاوروبية. كما أن الأدب الأوروبي أخذ يتمازج مع آداب البيئات الأخرى.