في سبيل مساومة شركة «غومون» الفرنسية: الحكومة الجزائرية تمول فيلما يمدح اليهود ويشهر بها!

TT

عاشت الساحة الثقافية الجزائرية أخيرا على وقع فضيحة بتوقيع حكومي، عبر فيلم «كان يا ما كان في الوادي»، الذي عرض برعاية رسمية من أعلى مستوى. بدأت الحكاية عندما علمت بعض وسائل الصحافة بأن هنالك عرضا شرفيا للفيلم، ولم تصلها دعوات رسمية لمحرريها الثقافيين على غرار ما يحدث في تظاهرات مشابهة، ما أشر على وجود شيء غير طبيعي.

تراكض الصحافيون إلى قاعة العرض الافتتاحي، للفيلم الجديد «كان يا ما كان في الوادي» الذي لم يدعهم أحد لحضوره، وسط ذهول ممثلي الوزارة الذين فوجئوا بهم، وبدأت التساؤلات عن أسباب استبعاد الإعلام المكتوب من تغطية الافتتاح، لتكشف الكثير من الحقائق.

مخرج الفيلم هو السيد جمال بن صالح، نجل شقيق الرجل الثالث في النظام الجزائري، ورئيس مجلس الشيوخ، السيد عبد القادر بن صالح، الأمر الذي أشعل منافسة حامية بين القطاعات الحكومية لدعمه.

فرغم أن الميزانية التي خصصتها الشركة المنتجة ـ مؤسّسة غومون ـ جاوزت 4.2 مليون يورو، أي ما يفي بالتكاليف ويزيد، إلا أن ذلك لم يمنع أن تتطوع وزارة الثقافة الجزائرية بدعمه بـ7 ملايين دينار جزائري، فيما زايد التلفزيون الرسمي عليها بتقديم 10 ملايين دينار جزائري، وتفضلت وزارة المجاهدين ـ جنود حرب التحرير الجزائرية ممن بقوا على قيد الحياة ـ بتقديم مساعدة ظلت قيمتها محط تساؤل! وقام المدير العام للأمن الجزائري بتوفير طائرتين عموديتين مع تقنييهما كمساعدة بسيطة! وتقدمت شركة اتصالات المحمول (نجمة) بـ100 تذكرة سفر ذهابا وإيابا، ووفرت جهة عامة أخرى إقامة لمدة شهر، في واحد من أفخم فنادق الجزائر، لكامل طاقم الفيلم الآتي من فرنسا، ناهيك عن كفالة كاملة لـمصاريف 80 إعلاميا فرنسيا حضروا لتغطية العرض الشرفي، واستُقبِلُوا على البساط الأحمر، الرمز الذي كان خاصا برئيس الجمهورية ومدعويه فقط، ونثرت على رؤوسهم الورود، ورافقتهم الزغاريد. ومن المفيد تسجيل أن مثل هذا الدعم الخرافي، لم يسبق أن حصل عليه أي مخرج جزائري شاب. وكان من الممكن أن يبرر لو كان الفيلم ذا نوعية عالية، أو ينطوي على استثمار مغر للحكومة الجزائرية، إلا أن شيئا من ذلك لم يتوفر!

حينما بدأ عرض الفيلم انزاح الستار عن معلومات إضافية، فالفيلم من بطولة جوليان كوربي صحافي محطة تلفزيون (تي أف1 الفرنسية) ومقدم برنامج (بدون أي شك)، يقص حكاية شاب فرنسي يصمم أن يكون جزائريا، فيلتصق بعائلة جزائرية عائدة لبلدها، ليعيش معها بغرض تحقيق حلمه، وعبر مغامراته الكثيرة سوف نكتشف بعض صور الواقع الجزائري. تجري القصة بالتزامن مع مشاكل البطل الجزائري الذي يخاصم أباه بشأن الفتاة التي أراد تزوجيه إياها.

الفيلم يَصِمُ الجزائريين بأنهم لصوص حتى مع أقرب الناس إليهم، مُزَوِّّرُوا تاريخ، لا يقيمون احتراما للوقت، دمويون بالفطرة، لا يحترمون الدين الإسلامي الذي يتشدقون به، منافقون، فوضويون، كل أملهم في الحياة كأس من الخمر وخصومة مع ابن الجيران! بينما نجد اليهود في الفيلم، مثالا للحكمة والنجاح والقدرة على جمع المال، يطلب منهم النصح ويحلون في أعلى المراتب، وفق العبارة ذات الرمزية العالية (بلد بدون يهود كمحاكمة بدون شهود) التي أطلقها أحد شخوص الفيلم بطريقة جد موحية.

وكأن سخرية الفيلم وتجنّيه على الإنسان الجزائري لم تكف، فتطوّع مخرجه ـ نجل شقيق الرجل الثالث في النظام ـ والمدير العام لمؤسسة «غومون»، السيد نيكولا سيدو، بإكمال المهمة، الأول سخر من قصر قامة الرئيس الجزائري على مرأى أربعة من وزرائه، وحوالي 10 سفراء أجانب، والثاني أعطى درسا في الأمانة لوزير الخارجية الجزائري أمام ذات الجمهور المحترم!

الفيلم من الناحية الإخراجية عادي للغاية، إن لم يكن أقل من المطلوب، حيث يكتشف المشاهد ببساطة أنه قد صُوِّر بين المغرب وفرنسا، ولم نر الجزائر سوى في بعض المشاهد الجانبية، الحبكة الفنية بدائية للغاية، ولم تعالج بحرفية عالية، كما أن السيناريو لا يمكن بأي حال اعتباره مطابقا للواقع الجزائري، أو معبّرا عنه بشفافية.

أمام كومة الانتقادات التي حفِل بها الفيلم والتشويه البالغ لصورة الجزائري، كان الفضول يحرقنا لمعرفة سبب تنازل الحكومة الجزائرية وقبولها ابتلاع هذه الإهانة على أرضها وبحضور جمهورها الرسمي! والذي ظهر بعد التنقيب والبحث، أن شركة «غومون» السينمائية، المالكة لأكثر من 500 قاعة عرض قد تكون هي الحل السحري لأزمة السينما الجزائرية.

فالحكومة الجزائرية التي تعاني انخفاضا حادا لأعداد دور العرض السينمائية، وترهلا كبيرا للوائح تسييرها وجهازها الإداري ـ ما دعا لاعتبارها تركة ملعونة ـ تكون قد فكرت بأن «غومون» تستطيع استيعاب تركتها السينمائية، شراء أو كراء أو حتى تطوعا، بما يفي بمشروع خصخصة قاعات العرض وإعادة تجهيزها بطريقة مقنعة. وفي حال قبلت (ست الحسن والدلال) بكل هذا أو بعضه فإن الحكومة تكون قد ربحت صفقة العمر، وبناء عليه فإن رجال الدولة الجزائريين الحاضرين، قبلوا بجميع أنواع الإهانات التي وجهت علانية لهم ولرئيسهم ولبلدهم، وعطلوا ضميرهم الوطني بصفة مؤقتة، وغضوا الطرف عن حقيقة أنهم يبذرون مالا عاما، على فيلم رديء يصفعهم بأقسى معاني الكلمة!

ويبدو أن رداءة شروط التفاوض مع الحكومة ليست هي كل ما في القضية، بل يضاف لها حقيقة أن لا ضمانة لتنفيذ «غومون» لوعودها بعد الجرعة السامة التي ابتلعتها الحكومة، وقد تكون هذه الحقيقة، هي السبب الرئيس لمحاولة منع الإعلاميين الجزائريين من حضور العرض الشرفي للفيلم، أي خوفا من تهييج الرأي العام الثقافي والوطني مقابل.. لا شيء! وهو مسعى كتب له الفشل لحسن الحظ. «بهدلة» ثقافية من الطراز المحترم، جعلت الكثير من الجزائريين يتذكرون مقولة المتنبي «من يهن يسهل الهوان عليه.... إيلام»!