«فنّ البهجة» رواية تضفي مَرَحاً على الموسم الأدبي الفرنسي

موهبة استثنائية لكاتبة إيطالية ماتت قبل أن تنعم بشهرة متأخرة

TT

يتمتع الفرنسيون اليوم بقراءة رواية استثنائية لكاتبة ايطالية، تعرضت للرقابة في إيطاليا ومنعت، ولم تخْرُج للعلن إلا بعد أن فارقت صاحبتها الحياة

عام 1996. عشر سنوات قضتها الأديبة والممثلة سابينزا محاولة ان تكتب بهجتها وحريتها كما تراها، لم تتمتع بشهرتها حية لكنها تكافأ اليوم،

بعد أن غابت، على مرح، ارادت ان تشرك به القارئ وفعلت...

في قمة صراع كواليس الجوائز الأدبية، حول من يحق له الفوز بجائزة «غونكور»، هذه السنة. والتزاحم يشتد بين «ويلبيك» ومنافِسَيْن قويين ظهرا مؤخرا ويوشكان أن يحرمانه، مرة أخرى، من هذه الجائزة، وهما ألكسندر جاردان في روايته «عائلة جاردان» وفرانسوا فييرغانس في روايته الملفتة «ثلاثة أيام في ضيافة أمّي»، فإن عشاق الأدب الحقيقي، يتمتعون، بحق، بقراءة رواية «فن البهجة» للكاتبة الإيطالية الراحلة جولياردا سابيينزا.

«المدينة تُعلّْمُ. هذه السلطة التي تمتلكها القِبابُ الفخمة والقصورُ والأبراجُ الكاسرة التي بالكاد تلطِّفُها تخريمات من شبابيك متشامخة، تسد الطريق أمام التنميل البائس الذي يُنِهِكُ نفسَهُ في تقديم الخدمة وفي الابتسام، مُذكِّرةً الجميعَ، أغنياء وفقراءَ، بضرورة تكديس المال من أجل مُحاربة الخوف من الموت. الموت، هذه الكلمة التي هي، في واقع الأمر، ليست أكثر ترويعاً من كلمات المرض والعبودية أو التعذيب. لنْ أُواجِهَ الموتَ أبداً، مع خطّ الوُصول هذا، الذي إنْ لم نَعُدْ نخشاه، يجعلُ من كلّ ساعة نتلذذ بها، بشكل كُليّ، مسألة أبدية. ولكن يتوجب أن نكون أحرارا وننتفع من كل لحظة، ونُجرِّبَ كل خطوة من هذه النزهة التي نسميها الحياةَ. حرية الملاحظة والدراسة والنظر من خلال النافذة ورصد كلّ ضوء يأتي من البحر ويتسلل تحت شابيك النافذة من غابة هذه البنايات.... أحدُهُم أطفأ كل مصابيح الشارع، صفّارةُ الميناء تُحَيِّي زورقاً لا مرئياً....».

«أجدني الآن في ظلمة الغرفة حيث ننام حيث نأكلُ الخبز والزيتون، والخبز والبصل. لا نطبخ سوى يوم الأحد. أمّي التي تمددت عيناها بسبب الصمت، تخيط في ركن من الغرفة. إنها لا تتكلم أبدا، أمي. إما أن تصرخ، وإما أن تصمت...»

هاتان الفقرتان مقتبستان من كتاب جولياردا سابيينزا Goliarda Sapienza «فن البهجة»(640 صفحة) الذي صدر حديثا عن دار «فيفيان هامي»Viviane Hamy.

وقد رحبت به الصحافة الأدبية الفرنسية كثيرا، واعتبرته من روائع ما صدر في هذا الدخول الأدبي، الذي طغى عليه في البداية طيف «ويلبيك»، وكذلك من روائع المؤلفة أيضا.

رواية «فن البهجة» تحكي مسار امرأة من القرن العشرين. موديستا، هي الشخصية المحورية في الكتاب، ولدت في مطلع يناير سنة 1900 في قرية صغيرة من صقلية. أثناء طفولتها ستعيش كل نزوات قَدَر قاس منتقم ورحيم في نفس الآن. لكنها مع مرور الزمن ستأخذ الأمور بيديها وستفرض إرادتها وتتحكم في كل قراراتها. قوتها تكمُنُ في الطاقة الحيوية والحيية التي تنبعث منها والتي تعيشها.

أنجزت الكاتبة سابيينزا، من خلال هذا الكتاب مشروعا أدبيا وتاريخيا في آن واحد. هذا الكتاب الذي تعرض للرقابة في إيطاليا وتم منعه، لم يَخْرُج للعلن إلا بعد أن فارقت صاحبته الحياة. وهو في نهاية المطاف ابتهاجٌ بالقراءة، ويطفح بهذه الحرية وكذلك بالرغبة الجارفة والمطلقة في أن تعيش الكاتبة حبّها وأفكارها. كل هذا عبرت عنه المؤلفة في أسلوب غنائي وكتابة حسية ومنسابة.

تجدر الإشارة إلى أن كل شيء استثنائي في هذا الكتاب/الرواية. إذ أن صاحبته توفيت سنة 1996 وقد قضتْ عشر سنوات في كتابة هذه الرواية في روما، ما بين سنتي 1967 و1978، ولكن الوسط الثقافي الإيطالي لم يرحب بها. العنوان الذي اختارته يُلفتُ النظر من الوهلة الأولى، ويشجع على قراءة هذا الكتاب الثري الذي يوفق بين ما يشبه أتوبيوغرافيا الكاتبة وبين العالَم الخارجي. الكتابُ هو في نفس الآن سيرة ذاتية تحكي فيها الكاتبة حياتها الشخصية ولكن من خلال عملية ربط تأريخية بتاريخ صقلية بشكل خاص وتاريخ إيطاليا المضطرب بشكل عام، ومن خلال تداعيات هذا التاريخ تتحدث عن علاقاته وتشابكاته بالتاريخ العالمي.

محكيّ تعليمي و«ساغا» تاريخية ورواية إيروسية وفلسفية وأتوبيوغرافية. إنه في النهاية: عملٌ في حالة فوضى واضطراب لحكّاءة وممثلة من صقلية (1924ـ1996)، تتحدر من عائلة اشتراكية وفوضوية. أبوها كان محاميا وزعيما نقابيا، وكان من منشطي الاشتراكية في صقلية إلى أن ظهرت الفاشية. أما أمّها ماريا كوديش فهي شخصية بارزة من اليسار الإيطالي واشتغلت مديرة لنشرة «صرخة الشعب» التي كان الفيلسوف الماركسي الإيطالي الشهير «أنطونيوغرامشي» محررا فيها.

تلقت غولياردا تكوينا أصيلا، كله في بيتها، كبديل أوحد للمدارس الفاشية. وقد نشرت قبل «فن البهجة»، أربع روايات تندرج كلها في إطار الكتابة الأتوبيوغرافية: «رسالة مفتوحة» سنة 1967، «خيط منتصف النهار» سنة 1969، «جامعة ريبيبيا» سنة 1983، وأخيرا «يقينيات الشك» سنة 1987. كما أنها تركت عدة كتابات غير منشورة.

تركت هذا المخطوط الذي اعتبره مديرو العديد من دور النشر الإيطاليين، وخلال 20 سنة، غير مهمّ وغير لائق. كل هذا مع العلم أنها لم تكن مجهولة في الأوساط الثقافية الإيطالية، إذ أنها ظهرت في فيلم «سينسو» لـ«فيسكونتي» وغيره، وقامت بأداء أدوار هامة لنساء ثوريات ولراهبات. كما أنها أبدعت في مجال المسرح أكثر، ثم تزوجت المخرج السينمائي الإيطالي الكبير فراسيسكو مازيللي. وقد تسببت في إثارة فضيحتين من خلال نشرها لعملين روائيين، الأول مكرس لفترة إقامتها في مستشفى للأمراض العقلية، والثاني مكرس لفترة السجن التي قضتها بسبب سرقتها لمجوهرات.

«الكتابة هي سرقة زمن من السعادة»، تقول المؤلفة، ولكن السعادة التي سُرِقَتْ منها، تقوم الكاتبة بإعادتها إلينا عبر تذوق للحرية لا يَعرف الاعتدال: رفض كامل للخضوع إن على المستوى الفكري أو الحسي أو العاطفي.

إنها في المحصلة النهائية رواية سابقة لعصرها وإرهاص بالحرية التي وصلت إليها المرأة الإيطالية اليوم.