المحافظون الجدد في ميركا ليسوا جددا

مثقفون ومنظرون ورطوا أميركا في ثلاث كوارث

TT

مؤلفا هذا الكتاب «أميركا المسيحانية» صحافيان من صحيفة «اللوموند» الفرنسية، غير أنهما في كتابهما هذا لم يستخدما

الأسلوب الصحافي في كتابته، بل آثرا استخدام المواد والمعلومات الصحافية لتوظيفها في نص تحليلي يعتمد المنهج الأكاديمي

في تناول المادة وتمحيصها للوصول إلى نتائج محددة

في هذا الكتاب لا يبحث المؤلفان عن الحدث أو السبق بقدر ما يوثقان المعلومات ويخضعانها للتحليل ويرجعانها للأسباب والحيثيات ليخلصا إلى النتائج. فهو عمل أكاديمي يتناول أميركا المسيحانية (المحافظون الجدد) على الرغم من بعض الفلتات الصحافية التي لا تضر النص بل ترطب مناخ الكتابة الأكاديمية.

أميركا، وفق النص، هي فكرة ـ مذهب، وشعار هذا المذهب موجود على العُمْلة الأميركية، والخروج على هذا الشعار خروج على دور أميركا

وقيمها، وعلى الثقة بالموهبة الأميركية الخارقة في إتمام مهماتها لتكييف ديمقراطية العالم وفق الأسلوب الأميركي. والمحافظون الجدد ليسوا جدداً إلاّ في إعادة ممارسة دورهم، فالفكر المحافظ هو لب القيم الأميركية منذ تأسست أميركا، لكن خلاياهم النائمة عادت للظهور المتطرف بفضل النهج السياسي الذي اعتمده رونالد ريغان، وتمكنوا بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 من السيطرة على السياسة الأميركية لأنهم كانوا يملكون تفسيرات جاهزة للأفعال الإرهابية.

وإذا كان صحيحاً أنهم لم يتوقعوا حدوثها فانهم على الأقل أطلقوا تنبيهات وإنذارات بأنه «علينا ألاّ نترك أنفسنا ننام عند نهاية الحرب الباردة، لنبقى يقظين، إنه من المبكر، أن يتم التحدث عن مغانم السلام، لأن هناك مخاطر جديدة تهددنا».

لقد وجد المحافظون الجدد قوة ثانية مع جورج بوش بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (ايلول). فالمثقفون الذين اعتادوا قيادة معركة الأفكار وجدوا الفرصة مناسبة لوضع نظرياتهم موضع التطبيق. على الرغم من أن للولايات المتحدة تجربتين على الأقل مع المثقفين في السياسة منذ عام 1945، وكانت النتائج في كليهما غير مشجعة، لا بل كارثية على العالم. بدأت التجربة الأولى غداة الحرب العالمية الثانية مع المثقفين الذين رافقوا الرئيس ترومان، فأنتجوا الحرب الباردة. والتجربة الثانية بدأت مطلع الستينات من القرن الماضي عندما استدعى الرئيس كنيدي إلى جانبه جيلاً من حملة الشهادات العالية من جامعة هارفرد، وهم الأفضل والأكثر ذكاء، فعملوا على توريط أميركا في مغامرة الحرب الفييتنامية.

ماذا فعل مثقفو المحافظين الجدد؟ ماذا حققت لهم الحرب العراقية؟. لقد أثبتوا دوغمائية مقرونة بشكل من أشكال السذاجة الناتجة عن الكوارث. من الثابت أن العالم معقد كثيراً ولا يمكن تركه لمنظّرين يعترضون على عدم مثاليته، ويؤمنون بأنهم يستطيعون إخضاع الحقيقة لتصوراتهم.

يعتقد المحافظون الجدد أن كل الإجابات في متناولهم وحدهم، وأنهم يملكون الحقيقة، وأن قوة الأسلحة التي يملكون تفرض نفوذها على الجميع. لذلك، في نظرهم، لا يمكن أن تشكل قضية العراق فشلاً، لأنه، لا شيء يبدو سيئاً بالنسبة إليهم سوى الوضع الراهن، ووفقاً لهذا المعنى يعتبرونه نجاحاً تاماً. لكنهم، من وجهة نظرنا، قلبوا أوضاع الدولة ولم يستطيعوا إعادة ترتيبها. ونرى أن الفوضى المتولدة من سياسة المحافظين الجدد ستكون أكثر كلفة مما ستنتج من أرباح.

تنادى هؤلاء للحرب على العراق قبل وقت طويل من اعتداءات سبتمبر (أيلول) 2001. فقد دعوا إلى قلب نظام حكم صدام حسين قبل ذلك، حتى أصبحت مسألة العراق من الأفكار الثابتة. فقد كتب وليام كريستول ولورانس كابلان وهما مثقفان من صلب التيار الذي يرسم مخططات إدارة بوش كتاباً قبل بدء العمليات ضد العراق بعنوان «طريقنا تبدأ ببغداد» قالا فيه: «تعتبر حرب العراق اختبار تحدٍ لما بعد الحرب الباردة». لكنهما لم يدركا أن أي فشل في العراق يحمل ضربة رهيبة، وربما قاتلة للمحافظين الجدد، ومسيرتهم قد تقف عند بغداد. لماذا اختاروا العراق؟ لعدة أسباب مترابطة بعضها ببعض. فالكل يعلم أن صدام حسين طاغية، والنظام الذي أرسى حكمه عند نهاية السبعينات من القرن الماضي، يقوم على القتل والقمع والتدمير. وقد أغرق بلده في صراع مع إيران استمر ثماني سنوات، ومن ثم غزا الكويت. وقمع طائفتين من أكبر طوائف بلده بعد ذلك مستخدماً الأسلحة الكيميائية، لذا يستحيل الدفاع عنه.

والعراق، ثانية، أحد أكثر الدول غنى، إذ يمتلك ثاني احتياطي للبترول في العالم، إلى جانب قدرات زراعية هائلة. وهو أحد دول الشرق الأوسط الأكثر تقدماً تعليمياً وعلمياً.

غير أن ذلك لم يكن السبب الرئيسي في غزو العراق، فالمحافظون الجدد يهتمون بالشرق الأدنى بشكل عام، لأنه أحد نقاط عدم التوازن الاستراتيجي الأكثر أهمية بعد الحرب الباردة. وعراق مستقر و«ديمقراطي» لن يكون مصدراً لنشر الأسلحة الخطيرة، وسيصبح عنصراً ملطِّفاً ومنظِّماً للعلاقات في المنطقة، ولا يمكن إلاّ أن يكون مسهِّلاً لتسوية العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية.

لقد رأوا في تبديل نظام بغداد ظرفاً ملائماً للبرهان على صحة منطقهم. فوضعوا نوعاً من النموذج تمَّ تصوره من قبل رجال ليس فيهم متخصص واحد فعلي في أمور العراق، ولا حتى متخصص واحد في الأمور الحربية والعسكرية. وأطلقوا بلاغهم القائل: من الآن وصاعداً أميركا هي القوة العليا على الكوكب، ولها السلطة، ومن واجبها إعادة رسم خريطة العالم بعد الحرب الباردة. وكأنها تقول: العراق ينتظر أميركا، فماذا كان؟.

إذا لم ننظر إلى سياسة ريغان لا يمكننا الإلمام بسياسة بوش ونتائجها، فريغان خصص عهديه ليبرهن أنَّه بالإمكان هزم الشيوعية وإسقاط جدار برلين، وإنهاء الحرب الباردة. فعمد إلى تعزيز القوة العسكرية للولايات المتحدة، والانتهاء من التحقير الذاتي الذي تعزز بسبب الحرب الفييتنامية، والاحتفاظ بالقوة والرفعة على مستوى القيم والمصالح الأميركية.

من هم المحافظون الجدد؟ ليس عددهم كثيراً. بضع عشرات، ربما يصلون إلى المائة. لا عددهم ولا قربهم الجغرافي يكفيان لتفسير مدى تأثيرهم. فهم ليسوا مجرد حركة بل نوع من الوعي الذي يجمع حوالي مائة من الأشخاص بين واشنطن ونيويورك.

هؤلاء المحافظون الجدد ليس لديهم بيان عام، ولا برنامج، ولا دين، ولا علم، ولا نشيد، إلاّ أن بعضهم في قلب الحكومة وقد اعتمد الرئيس على عشرين منهم، وهنأ نفسه لاختيارهم والباقين موجودون في أماكن عدة كمستشارين للحكومة أو في مواقع إعلامية متقدمة.

لاحظ المحافظون الجدد أن الإرهاب يجد أصوله ودعائمه المالية في الدول التي كانت تحت الوصاية بسبب نهاية الحرب الباردة، ومن جهة أخرى في الأضرار الناجمة عن شمولية الأضرار في التبادلات الاقتصادية. فبلوروا تصوراً أتاح لهم تحديد موقع الحدث، منظور جديد، وهو منظور الاستقرار الذي صانته الولايات المتحدة بذهنية الحفاظ على العلاقات القديمة المميزة مع أنظمة بذاتها. فكيف يستقيم الحق وتنشر العدالة وطائفة ثقافية تقيم في واشنطن ولا يبلغ عددها المائة تفرض تصورها للأمن العالمي، وملايين الشعوب تجتر أحزانها ومخاوفها ويُفرض عليها ما يحاك لها؟.

إن التعقيد العراقي انتقم لنفسه، فحرب العراق غذّت الإرهاب. والحجج المقدمة لتبرئة هذه الحرب قد فُضحت وكأنها فقدان للشخصية. كما أن هزيمة نظام صدام حسين لم تشرِّع مطلقاً الحرب الانتقائية، مما جعل واشنطن تعاني من الحاجة بإلحاح لمحور «التذمر» الذي تقوده فرنسا لتشريع وجودها العسكري في العراق.

هذا هو التحدي الذي يطلقه المحافظون الأميركيون الجدد إلى الأوروبيين. فهل تستجيب أوروبا للتحدي؟. الجواب لا زال معلقا.