سيرة ذاتية تتقاطع مع لمذكرات السياسية

يوميات العروي من الاجتياح الإسرائيلي للبنان إلى رحيل الملك الحسن الثاني

TT

حين أصدر عبد الله العروي الجزء الأول من يومياته «خواطر الصباح» قبل أربع سنوات، تهيأ للعديد من الفاعلين السياسيين والمثقفين والقائمين على الشأن العام في المغرب، أن الكاتب بصدد كتابة الفصل الأخير من إنتاجه الفكري وتصفية حسابه مع مرحلة لم تنصفه عمليا؛ لكن مع صدور الجزءين الثاني والثالث من اليوميات، سيتضح جليا أن صاحب «الإديولوجيا العربية المعاصرة» هو بصدد تنويع صيغة الخطاب لا غير.

بعد أن انحصرت كتاباته، لعقود من الزمن، ضمن انشغال النخبة الضيقة من المثقفين، ها هي اليوميات بما تتيحه من يسر في المأخذ، وما تثويه من نقد، وتأمل، ومراجعة، واستشراف، تتحول إلى الحدث الثقافي الأهم بالنسبة إلى الأوساط الأدبية المغربية، وأحد النصوص الأكثر انتشارا على المستوى العام في السنوات الأخيرة.

الجزء الحالي من «خواطر الصباح» هو الثالث في ترتيب الإصدار ويحمل عنوانا فرعيا هو «حجرة في العنق»، ويتعلق الأمر بيوميات السنوات الممتدة من: 1982، سنة الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إلى 1999 سنة وفاة الملك الحسن الثاني. تحكي اليوميات وجع الانكسارات، وصدمة العيش على هامش الكون، كما تستبطن في ثناياها أطياف كل الفرص الضائعة، وقد أكسبتها صيغة المراجعة التأملية طعم المأساة، كما تصور اليوميات قسوة الطبيعة وتسلط الساسة، وفرح الشارع بلذائذه الفقيرة، في الآن ذاته الذي تقلب مواجع النأي المتواتر لتلك الأطياف وخبوها المسترسل كما الشهب العابرة.

هكذا ومنذ الأسطر الأولى، يبدو العروي منشغلا بالتقاط تفاصيل الأجواء القاتمة التي هيمنت منذ مطلع الثمانينيات: نكسات السياسة المغربية، الأزمة الاجتماعية، تفاقم الفقر، مشاكل التعليم وبطالة الخريجين، عطب الاقتصاد، وتعثر المسلسل الديمقراطي، بالتوازي مع رصد الإخفاقات العربية العامة أمام إسرائيل، وتعثرات مشاريع الوحدة الإقليمية، ثم التفكك العربي الشامل بعد الغزو العراقي للكويت، والذي أعقبته شتى صور الصراع الدامي بين الحكومات العربية وحركات التطرف الديني، وما إلى ذلك من القضايا التي شغلت الرأي العام العربي على امتداد العقدين الأخيرين من القرن الماضي.

يقدم العروي تلك القضايا بروح المفكر الوطني، وخبرة المؤرخ، وحدس عالم السياسة، فتبدو تعليقاته أشبه ما تكون بصوت الضمير الجمعي، في حدتها وصدقها، واتقاد الحس الإنساني بداخلها، وكأننا نستوعب الحدث الذي نعرفه جيدا ومضى على وقوعه ردح غير قصير من الزمن، لأول مرة، ونكتشف وقعه الصادم، وخطورة ما يكتنـزه من دلالات.

يقول العروي في أحد المقاطع: «احتضنت القمة الإسلامية الرابعة مدينة الدار البيضاء وكان الجو مضطربا. وتحتضن القمة الحالية الكويت وسط انفجارات أعقبت تهديدات إيرانية شيعية. نعيش حروبا دينية خمسة قرون بعد أوروبا. مشغولون بمشكلات الراهن فكيف نخطط للمستقبل؟ كل دولة إسلامية مهددة في كيانها فأقصى ما تصبو إليه هو الاستقرار !»(ص60).

على هذه الوتيرة يكتب عبد الله العروي انطباعاته اليومية، ليؤرخ لتفاعل الذات الفردية مع محيط التحولات، وليفرغ العواطف والانفعالات العابرة في تأملات كتابية، حتى تتمكن الأحاسيس الاستشرافية والحدوس، المنفلتة كالنيازك، من الانتظام في نسق من القول الفكري، فتتحول تدريجيا إلى نوع من الشهادة على العصر، بنبرة لا تخلو من هجائية مريرة، تداري لوعة الذات الموجوعة بانتمائها إلى جنوب أنهكته الهزائم. من هذا الأساس تكتسي «خواطر الصباح» في جزئها الثالث، مثلما كان عليه الأمر في الجزءين السابقين، طابع السيرة الذاتية، التي تتقاطع مع المذكرات السياسية، والتاريخ القومي، بالقدر نفسه الذي تبدو فيه امتدادا لولع الكاتب بالتخييل السردي، وفتنته بفنون السينما والرواية والفن التشكيلي والموسيقى. بتعبير آخر ترتسم اليوميات الحالية باعتبارها حلقة أخرى في مشروع سردي متلاحم ابتدأ مع روايات: «الغربة» و«اليتيم»، و«الفريق»، ثم مع سيرة «أوراق»، وأخيرا مع رواية «غيلة» لينتهي بالجزئين: أول والثاني من «خواطر الصباح»، حيث لا تبدو الوقائع الموضوعية المثيرة لاهتمام المؤرخ إلا كذريعة لمحكيات ذاتية، سرعان ما تترك الحرية للكاتب للتمادي في افتراض التفسيرات والتآويل التي لا تحتملها صيغ البرهنة العقلانية في التآليف العلمية.

وعلى غرار هذا الولع السردي تحفل اليوميات بنفس تصويري بالغ الثراء والإيحاء، يرفده رصيد هائل من السجلات الصورية المرئية والمكتوبة، حيث غالبا ما تنبثق التعليقات البارعة والمقاطع التأملية العميقة من صلب تداعيات مشاهد فيلمية وصور روائية وإيقاعات الألوان في لوحة تشكيلية، يقول في صورة من تلك الصور:

«أتساءل وأنا أزور مرسم غوستاف مورو، أسفل مونمارت: لماذا لم يهتم به سارتر؟ لو فعل لوجد صعوبة في إخضاعه للتحليل النفساني/ الوجودي الذي حاول به تلقيح الماركسية بالفرويدية وتجاوزهما معا... يتمثل مورو وأقرانه من المدرسة الرمزية بيزنطة، أي حضارة ساطعة باهتة، حضارة تحتضر، لما كانوا يشعرون به من تخاذل وتفكك وانحلال في محيطهم» (ص 42).

في مقاطع أخرى من اليوميات يستدعي العروي تجريدات الفنان «كاندنسكي»، كما يستثير عوالم «كونديرا»، والحرفية المبهرة لـ«كونراد» و«هنري جيمس»... يتحدث بكثير من اللوعة والنعومة عن ملامح تلك الكلمات والصور، فتبدو «خواطر الصباح» من أفق ذلك السديم المجازي شبيهة بالسجلات السرّية للكاتب، حيث تبدو الكلمات مجرد تخطيطات رمزية، لأعمال أخرى مكتملة في بنيتها وانشغالها الموضوعي، ينطبق عليها التشبيه الذي استدعاه الناقد الإنجليزي «ستيفن أولمان» لاستيضاح تقنية «مارسيل بروست»، حيث تتجلى المقاطع السردية كالجبل الجليدي المنغرس في البحر لا تطل منه إلا القمة المتضائلة، أما الجذر الأعظم فثاو في العمق.