هدية مرعبة إلى «عميد الأدب العربي» في ذكرى وفاته

إغلاق متحفه لأن الصرف الصحي أتلف الأعمدة وأشياء أخرى

TT

منذ بضعة أشهر وأنا أعد العدة للكتابة عن متحف عميد الأدب العربي طه حسين، وما يعانيه في ذكرى وفاته الثانية والثلاثين التي توافق يوم 28 من أكتوبر الجاري. وبعد عدة زيارات تحضيرية للمتحف، ومع اقتراب الذكرى التي أردت الاحتفال بها على طريقتي، ذهبت للمسؤول عن تصاريح التصوير

بإدارة المتاحف والمعارض في وزارة الثقافة المصرية، لأحصل على إذن بتصوير المكان من الداخل، ففوجئت بالرجل يقول لي: «خلاص يا أستاذة لا يوجد متحف لطه حسين، أغلقناه ونقلنا محتوياته، بسبب تهاوي أرضياته».

لم أصب بدهشة كبيرة، وأنا اسمع المسؤول يخبرني عن الكارثة التي حلّت بمتحف طه حسين، لأنني كنت أعرف ما عاناه من إهمال كبير طوال سنوات، لكنني أصبت بخيبة أمل كبرى من إدارة المتاحف والمعارض، التي ناجاها المتحف وإدارته طوال تلك السنوات، ولا حياة لمن تنادي. لم تكن أرضية المتحف فقط هي التي تهاوت، بل إنها الأعمدة الخرسانية الأساسية. أي كان من الممكن أن ينهار المتحف على من فيه من عاملين وزوار ـ إن وجدوا ـ جراء الصرف الصحي للشارع لأنه يصب أسفل المتحف الذي تنخفض أرضيته عن مستوى هذه التمديدات، هذا غير الرطوبة التي طالت حوائط المتحف منذ زمن بسبب تلف وصلات الصرف الصحي ومياه الشرب، الخاصة بالمتحف نفسه، مما أدى إلى تلف الباركيه الخشبي القيم أيضاً، والذي تم جمعه وإلقاؤه الآن في الحديقة الخلفية، إلى جوار خشب السقالات التي يقف المبنى عليها حالياً.

خراب يصعب ترميمه

بالطبع، أدى هذا الخراب إلى انخفاض بعض الأرضيات التي كان يمكن أن يلاحظها أي زائر حصيف، ويمكنه ببساطة، أيضاً، أن يرفع السجاد في عجالة ليرى المنخفضات التي يسير عليها. ولم تكن كافية مداراة رطوبة الحوائط بقطع الأثاث الجميلة، فكان من السهل رؤية الحائط المتهالك وراء الجرامافون الشهير للعميد في القاعة الرئيسية. هذا غير بعض الغرف المغلقة التي لم تكن تفتح للزوار، ويعلم الله وحده ما كانت تعانيه.

وحينما توجهت بالسؤال للمشرفات والمشرفين على المتحف، والذين تعددوا مع زياراتي المختلفة، كانت الإجابة واحدة، وهي أنهم مع إدارة المتحف قد توجهوا بالنداء كثيراً وطويلاً لإدارة المتاحف والمعارض التي يتبعونها، واشتكوا من كل ما يعانيه المكان، وأكدوا على خطورة الموقف لكن لم يجبهم أحد بشيء.

إهمال من كل نوع

أما عن معاناة المتحف من الإهمال الأدبي والمعنوي فحدث ولا حرج، فلا توجد أي دلالة على وجود متحف لطه حسين، سوى إشارة في شارع الهرم وأخرى في شارع فيصل. فالمتحف ـ الذي لا يزوره أحد تقريباً منذ سنوات ـ لا يأخذ من اهتمام إدارة المتاحف والمعارض القليل، مما يجعلها لا تطبع من أجله، ولو كتيباً صغيراً باللغة العربية أو حتى مجرد ورقة صغيرة يحصل عليها الزائر، الذي يصل إليه بالجهود الذاتية. ونحن لم نكن نطالب بالمستحيل، لا نريد كتاباً ملوناً ولا قرصاً مدمجاً للمكان لا سمح الله، ولا أن يقدم المتحف للزائرين الأجانب كأفضل متحف يمكن ضمه لخطة السياحة في مصر، خاصة بين الفرنسيين ـ وهذا كان سيستدعي كتيباً باللغات الأجنبية ـ فقط نطالب بكتيب أو ورقة صغيرة بالعربية، تعطي لزائر المتحف فكرة عنه وعن تاريخه وأهمية محتوياته. كان هناك نشاط ثقافي محدود يتم في المبنى المقابل للمتحف، والذي كان بناؤه في الأساس لتحويله منارة ثقافية، ولم نكن نسمع عن هذا النشاط، إلا لو شاركت فيه بعض الأسماء اللامعة. أما الآن فلا متحف ولا من يحزنون.

مخاوف سوزان طه حسين ورفضها

وقد تحقق الآن أكثر مما خافت منه سوزان طه حسين، وجعلها ترفض بيع الفيلا لوزارة الثقافة، وتحويلها إلى متحف بعد وفاة زوجها، إثر زيارة قامت بها إلى بيت أحمد شوقي، الذي يقع تحت طائلة وزارة الثقافة، ورأت كيف عانى وقتها من إهمال شديد. وهذا ما كان قد صرح به د. محمد حسن الزيات وزير خارجية مصر الأسبق وزوج أمينة أخت طه حسين، في حوار أدلى به لمجلة «صباح الخير» عام 1992. وكان هذا هو الحديث الأول الذي أجري معه بعد اقتناء وزارة الثقافة لبيت طه حسين. و كان د. الزيات ممثلاً لورثة العميد في ذلك الوقت، بعد وفاة سوزان وأمينة. وقد تم توقيع عقد البيع الابتدائي للبيت في 28 يناير 1992، من د. الزيات كطرف أول ووكيل للورثة، ووزير الثقافة كطرف ثان، و بالطبع غني عن التعريف أن وزير الثقافة في ذلك الوقت، كان هو الوزير الحالي فاروق حسني. وتضمن العقد على نص يشترط، أن يكون المتحف مركزاً عالمياً للإشعاع الأدبي والفكري. وإذا عدنا للمذكرة التي عرضها فاروق حسني وزير الثقافة في فبراير عام 1991، على رئيس مجلس الوزراء المصري في ذلك الوقت، وكان د. عاطف صدقي، للحصول على الموافقة لشراء الفيلا نجدها تتضمن التالي: «تنفيذاً لسياسة الدولة في تكريم رواد مصر في الثقافة والفنون، والاستفادة من أعمالهم وتراثهم في العمل الثقافي، فإن الوزارة ترغب في شراء منزل عميد الأدب العربي د. طه حسين الذي كان يقيم فيه والمشهور باسم فيلا راماتان بشارع حلمية الأهرام، المتفرع من شارع الهرم، وذلك لتحويله إلى متحف لعميد الأدب العربي، للحفاظ على مقتنياته وآثاره الهامة وكتبه ومخطوطاته، ولكي يكون مزاراً للجمهور والمثقفين يستفيدون منه الاستفادة الثقافية الواجبة، ولحماية هذا التراث وتلك المقتنيات من الضياع، بالإضافة إلى إعادة تأسيس مكتبة الفقيد التي تضم ذخراً كبيراً من الكتب والمراجع الأدبية العربية والأجنبية القيمة...». وقد نشرت وزارة الثقافة هذه المذكرة أثناء احتفاليتها بذكرى وفاة طه حسين العشرين والتي تزأمنت مع اقتناء الوزارة للفيلا. والسؤال هو: أين كل هذه المنجزات، ولماذا لم يتحقق منها شيء، إذ حتى المكتبة لا تزال تحت التأسيس والأرشفة، بعد خمس عشرة سنة على هذه المذكرة!

و كان عميد الأدب العربي طه حسين (14 نوفمبر 1889 ـ 28 أكتوبر 1973) قد اشترى فيلته في الموقع المذكور، وأطلق عليها اسم «رامتان»، وهو لفظ مثنى، لكلمة «رامة»، وتعني موضع راحة القوافل في البادية، حيث أراد أن يشاركه ابنه د. مؤنس السكن فيها، فيكون لكل منهما رامة. وكانت «رامتان» ساحة اللقاءات الأسبوعية المستمرة لطه حسين بمثقفي مصر وأعلامها وأكاديمييها. وشهدت الفيلا، في نهاية حياته جلسات أعضاء المجمع اللغوي، حيث كان العميد قليل الحركة، كما استقبلت كل أديب أجنبي وصل إلى مصر. ففي هذا البيت استقبل طه حسين عام 1962 أديب نوبل اليوغوسلافي ايفو أندروفيتش، كذلك استقبل فيه مندوب رئيس الجمهورية عندما منحه قلادة النيل التي لا تمنح إلا للرؤساء والملوك. تلك القلادة التي كان يمكن للزائر رؤيتها مع نياشين وأوسمة طه حسين في الدور العلوي من «رامتان» المتهاوية، التي نرجو أن يكون هناك سبيل لعودتها إلينا سالمة، مثلما عاد متحف أحمد شوقي منذ بضع سنوات، وإن كان الوضع الحالي غير مبشر. وما يزيد العجب أن إدارة المتاحف قد أغلقت المتحف، لكنها لم تعلق أي يافطة تنذر عابر السبيل أو زائر الصدفة بإغلاق المتحف، فلماذا التكتم على الأمر؟ وهل فداحته من الصعب تداركها؟ هذا السؤال موجه إلى إدارة المتاحف والمعارض، وإلى وزارة الثقافة، أما عميد الأدب العربي في ذكرى وفاته، فله رامته في القلوب والعقول بعد ثلث قرن على وفاته.