تجربة جزائرية تثبت ان الـ «هايد بارك» بدعة تجب محاربتها!

هستيريا المثقفين حين يمسكون الميكروفون

TT

بدأ الموسم الثقافي الجزائري هذه السنة بالكثير جدًّا من الفوضى، والكثير جدًّا من الخلافات، ومثلها من المواعيد والأحلام، التي قصقصت أجنحتها!

بداية الفوضى كانت على مستوى وزارة الثقافة الجزائرية، ففي إطار توسيع النقاش حول مشروع المصالحة الوطنية الذي اقترعت عليه الجزائر أخيرا، نظّمت وزارة الثقافة لقاءً عامًّا بالمثقفين، وسط العاصمة، ومنحت الميكروفون لكل من طلب الكلمة، ليقول رأيه في المشروع سلبًا أو إيجابًا، وهي تظاهرة لم تشهدها الجزائر من قبل، حاولت وزيرة الثقافة، خالدة تومي، أن تخلق من خلالها (هايد بارك) ثقافي، إلاّ أن المثقّفين أبوا إلا إفساد العرس.

قام أحدهم، وهو الأستاذ محمّد تامالت، متكلماً، وبدل أن يقدم مبررات موافقته أو معارضته للمشروع الرئاسي، استغل المنبر المفتوح على أجهزة الإعلام المختلفة، ليصفّي حساباته السياسية مع الرئيس بوتفليقة، ويعدّد انتقاداته كالعادة لحالة حقوق الإنسان، دون الالتفات إلى أن (حالة حقوق الإنسان المتردية في الجزائر) هي التي سمحت له بانتقاد رئيس الجمهورية، من على منبر نصبته هيئة رسمية! الذين تلو الرجل المشاكس عارضوه، أحدهم قدّم بيعة رئاسية، وآخر غنّى، وغيره ألقى قصائده العاطفية، ورابع أعلن من على منبر المصالحة الوطنية كراهيته الشديدة لفلان واستعداده لتصفية حسابه معه قريبًا! ولم تنس الشاعرات نصيبهن، فقد طلعت الدكتورة ربيعة جلطي، المسؤولة السامية بوزارة الثقافة، بدعوة غريبة إلى تأنيث اللغة والمفاهيم الثقافية. وطبعا لا علاقة للدعوة التأنيثية بالقضية، موضوع الاجتماع إلاّ تذكير الحاضرين بالأنوثة (العالية) للمتحدّثة، تمامًا كما حصل مع التي ألقت قصائد عاطفية ساخنة، والذي طلب دعمًا لملتقى الأنشودة المدرسية، والذي قال ان حلمه ـ كلّ حلمه ـ أن يسلّم على الوزيرة ويلتقط معها صورة تذكارية! البائس الوحيد في الاجتماع الذي لم يحصل من قبل، ولن يحصل ثانيةً، هو وزيرة الثقافة، التي أُجبرت على تحمل أكثر من 10ساعات جلوسًا على كرسي من الجلد الخشن، وسماع مشاكسات ومشاغبات وغراميات أكثر من 250 كاتباً، بعضهم يحتاج إلى عناية نفسية جدّ خاصة، وبعضهم يحتاج إلى إعانة مالية عاجلة! النتيجة أن الملتقى كان فرجة مجّانية، أقنعت الكثيرين بأن الـ (هايد بارك) بدعة يجب محاربتها بالفعل!

وكي يكتمل المشهد الفوضوي الثقافي الجزائري، فإن النقاشات الحامية التي أثارها الروائي الجزائري المقيم في فرنسا ياسمينه خضراء حول روايته الجديدة «الاعتداء» على أعمدة كبرى الصفحات العربية والغربية، انعكست نقاشا مماثلا في بلده. البداية كانت مع مقالين صدرا في صحيفة «الشروق اليومي» بقلم الصحافية المشاغبة زهية منصّر التي تساءلت عن السبب الذي دفع اللوبي اليهودي في فرنسا إلى شراء آلاف النسخ من الرواية وتوزيعها مجّانًا، ومن ثمّ الاحتفاء بها في صحف «لوموند» و«لوفيغارو» و«لو ماغازين ليترار» ..الخ، وربطت الاهتمام الكبير الذي تلقّاه الكاتب بموقفه من القضية الفلسطينية ودعمه لإسرائيل، وهي نقطة لم يخفها الكاتب في أحاديثه الإعلامية أبدًا. وانضمّ للصحافية المشاغبة زميلها محمّد بغالي من يومية «الخبر» ودلف إلى ساحة المعركة آخرون. وكانت المفاجأة أن أحد الصحافيين المعروفين بدعمهم للقضية الفلسطينية، وهو حمدان الجعدي، كتب مناصرًا ياسمينة خضراء ضد صبية الصحافة! وهنا انفجر الوضع فقد ردّت الصحافية عليه بإعطائه عنوان المكتبة التي يمكنه اقتناء الرواية منها! ونصحته بأن لا يتحدّث عن أعمال لم يسبق له قراءتها! بل وحوّلت المشكلة إلى صراع أجيال حين غمزت قناته قائلة «دعوا صبية الصحافة يكبرون دون وصاية من أحد»، والمعركة متواصلة بين المؤمنين بأن أدب ياسمينة خضراء يستعطف اليهود، ويمضي عكس القضية الفلسطينية ومن يراهنون عليه كبوابة لاختراق العالمية الثقافية. وكما هي العادة الجزائرية فالصحف الفرانكفونية، تقف في صفّ الأدب المكتوب بالفرنسية، والصحف المعرّبة تعتبر نفسها فلسطينية أكثر من الفلسطينيّين أنفسهم!

والفوضى لم يسلم منها «معرض الجزائر الدولي للكتاب»، الذي شهد واحدة من أسوأ دوراته، حيث تركت الكتب مرمية على قارعة المعرض، لم يسمح لها بالدخول ولا العودة! ورفض أعوان الجمرك تخليص آلاف الكتب، رغم أن الناشرين الضيوف، دفعوا أتعاب التخليص و(بقشيش) المخلّصين! كما صوّرت الصفحات الثقافية مشاهد أجنحة المعرض فارغة بعد يومين من افتتاحه. أمّا أطرف ما حدث هذا العام، فهو ما سمّاه البعض «الفصل العنصري اللغوي»، حيث ان دخول جناح العارضين العرب، خضع لإجبارية المرور على بوّابة أمنية إلكترونية تذكّرك بمعبر (إيريز) الإسرائيلي، بينما دخول الجناح الغربي، تم من دون بوّابة إلكترونية وأعوان متجهّمين، بل باب دوّار على الطريقة الباريسية الأنيقة، والكثير جدًّا من سَاندرِيلات الاستقبال الساحرات! ومعنى هذا أن المعرّبين «مشاريع عمليات انتحارية» يجب التعامل معهم بالطرق اللاّزمة، أما ذوي الهوى الغربي، فهم من «السنافر» الجميلة و«البوكيمونات» الوديعة التي لا يجب مس أي من مشاعرها الرهيفة!

فوضى كبيرة أثارها الناشرون العرب، وأخرى أثارها القرّاء، وثالثة على أعمدة الصحف، ورابعة على مستوى لجنة التنظيم، التي قدّمت موعد الإغلاق يومين دون (إحم ولا دستور)! وإذا كانت الصحافة الجزائرية قد أقالت مدير الدورة الماضية، وأرسلته إلى جهة لم تتّضح بعد، فإن مصير خلفه هو قيد النقاش، وفق المعلومات المتداولة بأوساط الطبقة الثقافية المخملية، بناءً على إجراءات الانتقام التي شرع في تطبيقها على الصحف التي فضحته.

فالقانون الجزائري يضع تمويل الصحف بيد مدير معرض الكتاب، الذي هو بالآن نفسه، مدير أكبر مؤسّسة لتوزيع الإعلانات الحكومية، وفي حوزته ملايين الدولارات لتوزيعها على الصحف، ولوحظ اختفاء تدريجي للإعلانات الحكومية من صفحات الجرائد التي شهّرت به، ما مثّل لدى المتابعين مؤشّرًا لـ (علقة ساخنة ) قد يكون تلقّاها من لدن المحيط الرئاسي، قد تتبعها إقالة صريحة أو مغلّفة!.. خصوصًا أن رئيس الجمهورية معروف بصرامته مع التهاون في المواعيد الدولية التي تستضيفها الجزائر.

بداية موسم الثقافة الجزائرية كانت فوضى عارمة، والبقية تأتي.