السلطان قايتباي يسقي زوار الأقصى في رمضان

TT

تحول الحرم القدسي الشريف المقام على أكثر من 140 دونما، في رمضان، هذا العام، إلى مقصد لآلاف الفلسطينيين، بعكس السنوات الخمس الماضية. الزوار يرتعون في تاريخ مديد، ويشربون من أسبلة عمرها مئات السنين، ويبتلعهم الحاضر وهم لا يعلمون.

الحياة تعود إلى الحرم القدسي الشريف بعد خمس سنوات من الهجر

أقدم المقدسيون، على تزيين أحيائهم وشوارع المدينة العتيقة، التي طالما تغنت بها فيروز، وأصبحت هذه الشوارع مضاءة ليلا بفضل المصابيح التي وضعها الأهالي. وبدا منظر الطرقات المؤدية إلى الحرم، لافتا، بينما ازداد ليل القدس جمالا، وازدياد ضيوف المدينة من العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل، الذين يأتون مع عائلاتهم حاملين أطعمتهم لتناول الإفطار في الحرم.

تدفقت آلاف العائلات إلى باحات الحرم وأروقته وحدائقه وأسواره، وتحولت الزيارات الدينية إلى مظاهر اجتماعية وسياحية، وأعاد الناس اكتشاف المكان، وعقد صداقات، لا يعرف كم منها سيصمد مع الزمن، لكن المؤكد أن ذكريات كثيرة سيبقيها رمضان هذا العام في نفوس الزائرين، خاصة ان الأولاد وجدوا أنفسهم، ينطلقون في المكان المقدس بعيدا عن الحواجز والاغلاقات، ويشربون من مياه الاسبلة الباردة ارواء لعطشهم.

أسبلة ومماليك

طوال قرون كانت مسألة تزويد القدس بالماء أمرا يشغل الحكام المتعاقبين على المدينة، وحتى نهاية الحكم العثماني كانت القدس تتزود بالمياه من برك سليمان الثلاث، التي تقع جنوب مدينة بيت لحم، وتتغذى من الوديان والينابيع، وذلك بفضل قنوات خاصة، يعود بعضها إلى العهد الروماني، وأخرى إلى العهد العثماني. وبنى الخليفة مراد الرابع قلعة تحمل اسمه بالقرب من البرك لحمايتها من قطاع الطرق والأعداء، ولضمان تدفق المياه إلى القدس عبر الأقنية التي يمكن أن تشكل للأثريين اليوم، مجالا مهما للدراسة. كذلك اعتمد أهل القدس على تجميع مياه الأمطار في الآبار. وفي ساحات الحرم، توجد نحو 25 بئرا، غير آبار أخرى داخل المسجد نفسه. وبنيت أسبلة لتكون صدقة جارية، تزود الزوار بالماء للشرب والتطهر، تجسدت فيها الفنون المعمارية لعصرها، وبعضها أضحى من معالم الحرم القدسي الشريف البارزة، مثل تلك التي بناها السلطان العثماني سليمان القانوني وأسبلة أخرى مثل: سبيل الكأس أمام المسجد الأقصى، وسبيل باب السلسلة، وسبيل بركة السلطان، وسبيل شعلان.

وكثير من هذه الأسبلة يعود الفضل في بنائها إلى سلاطين المماليك، الذين عنت لهم القدس التي أحبوها حد العشق، وبشكل ضاهى، في أحيان كثيرة، العاصمة القاهرة، واعد باحثون أجانب، وإسرائيليون، كتبا مهمة ومثيرة عن (القدس المملوكية). ولكن نفس الاهتمام لم يجد له مكانا لدى الباحثين العرب. يقول الدكتور إبراهيم الفني «عوملت القدس بمنزلة العاصمة المملوكية مع أنها تتبع إداريا ولاية دمشق». ويضيف «إن هذه الازدواجية في العلاقة منحت القدس ميزة فريدة من نوعها، لان ولاة دمشق المماليك ابدوا اهتماما ورعاية للمدينة بسبب الاهتمام السلطاني بها».

سبيل قايتباي

ومن أهم سلاطين المماليك الذين عنوا بالقدس الاشرف قايتباي (1468 ـ 1495م)، أعظم سلاطين المماليك، وأكثرهم نشاطا. اهتم قايتباي بالمدينة، وعمل على تدعيم البنية التحتية كترميم الأقنية، وبناء الأسبلة العديدة، لكن اسمه ارتبط أكثر من شيء آخر بمنشاة جميلة وبديعة هي «سبيل قايتباي» الذي وصفه البعض انه أهم سبيل في القدس وبلاد الشام. هذا السبيل فاتن حقا، يقع مقابل مكتبة المسجد الأقصى، بني عام 1482، من حجارة حمراء وبيضاء وأعمدة ركنية مزخرفة، ويتكون من أربع واجهات معمارية كطابق أول، مع ثلاثة شبابيك لشرب الماء منها.

الأشرفية

ولم يكن بناء السبيل البديع الذي يحمل اسمه وبقي شامخا حتى الآن، هو أهم ما فعله قايتباي للقدس، فإليه ينسب بناء المدرسة الاشرفية التي اعتبرت (الجوهرة الثالثة) في الحرم القدسي الشريف بعد الجوهرتين: مسجد قبة الصخرة بقبته المذهبة والمسجد الأقصى.

بدأ ببناء هذه المدرسة، التي لم يبق لها اثر الآن، الأمير حسن الظاهري، باسم الملك الظاهر خوشقدم الذي توفي قبل أن ينتهي البناء، فطلب الظاهري من السلطان الجديد قايتباي أن يتقبلها، وعند الانتهاء منها سميت المدرسة الاشرفية، ولكن قايتباي عندما زار القدس ورأى المدرسة التي تحمل اسمه، اتخذ قرارا مفاجئا: وهو هدمها وإعادة بنائها من جديد بإشراف مهندس مسيحي مصري. يقول الدكتور الفني عنها «اعتبر مبنى هذه المدرسة من أجمل المباني في منطقة المسجد الأقصى، وآم الاشرفية علماء، كانوا يدرسون العلوم الدينية والمذاهب الفقهية مع العناية بالمذهب الشافعي الذي اخذ به اغلب سكان القدس».

للأسف لم يبق الكثير من هذه (الجوهرة)، وبقي هذا النقش الذي يوثق لبانيها «أمر بإنشاء هذه المدرسة الشريفة مولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي عز نصره بتاريخ مستهل شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثمانمائة. وذلك في أيام مولانا المعز الأشرف الناصري سيدي محمد الخازندار ناظر الحرمين الشريفين عظم الله شأنه».

ويوجد نقش أخر كتب عليه «أمر بإنشاء هذه المدرسة المباركة الأمام الأعظم والملك المكرم السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي عز نصره فكان الفراغ من ذلك في شهر رجب سنة 887هـ) أي في عام 1482م».

ويبدو أن النقش الأول يخص بداية العمل في البناء والثاني يوثق للانتهاء منه.

ولكن كل ذلك مضى وانقضى وأصبح جزءا من تاريخ مدينة، تقلبت عليها الأنواء كثيرا، وتخضع الآن للاحتلال الإسرائيلي منذ 38 عاما، مدة رغم قصرها بالنسبة لتاريخ المدينة الممتد إلى 7 آلاف عام، إلا أنها كانت قاسية جدا. وفي ظل هذه الأجواء يجد ناسها في سبيل قايتباي، مكانا للاستظلال به، يجلسون بجانبه، ويشربون منه، ويرشقون وجوههم بمائه البارد ليخفف من حرارة الجو. ولكن اغلبهم، لا يعرفون تاريخه أو حتى اسمه!