إصدار مجموعتين ضخمتين لكل من فيفالدي وبريتن

في حرمة البهو الموسيقي الجليل

TT

الموسيقى الكلاسيكية في أكثر الحضارات القديمة والحديثة، خرجت من حضرة الدين وأماكن العبادة والتأمل الروحي. الموسيقى الكلاسيكية الغربية ليست استثناءً بالتأكيد. فبالرغم من غياب الكنيسة تحت ظلال الحياة العلمانية الحديثة في الغرب، إلا أن الموسيقى بقيت أمينة لحاضنتها الأولى، ومصدر إلهامها. فما من موسيقي، منذ عصر الموسيقى المبكر حتى العصر الطليعي والتجريبي الحديث، تجرد من ثياب الراهب المتبتل، في لحظات حاجته للتأمل الروحي بشأن علاقته بالطبيعة، بالآخرة وبالله.

في الساعات الحزينة، ساعات الكرب، والحروب الفالتة من العقل، ساعات الموت الجماعي المجان، يعنّ لمحب الموسيقى، أن يلجأ الى ركن ذائقته الدافئ هذا، أعني ركن موسيقى الكورال والأصوات المنفردة، التي تعرف بالموسيقى الدينية، بحثاً عن سلوان وعزاء. ولأن موروث هذا الضرب من التأليف الموسيقى واسع الغنى وكثيف، وقد يكون مؤلف مثل باخ خير منار، فإن الخيارات لا محدودة. ولكن الرغبة بالجديد تظل تحدو مستمعاً مثلي ما أيسر أن يمد يداً الى الرفوف، ليلتقط ما يحلو له من القديم المألوف لديه.

الجديد الذي بين يدي، مجموعتان ضخمتان لكل من فيفالدي القرن الثأمن عشر (1668 ـ 1741) صدرت عن دار hyperion، وبينجامين بريتن القرن العشرين (1913 ـ 1976) صدرت عن دار DECCA . الأول إيطالي واسع الشهرة، والثاني بريطاني لا يقل عن الأول شهرة. الأول من أبرز أعلام عصر الباروك. بدأ صغيرا بارع العزف على آلة الكمان، ثم شرع لتأليف الكونشيرتو صغيراً، ودخل بهو الكنيسة قساً، ومعلماُ للموسيقى فيها، ثم سرعان ما ضاق ذرعاً بجو التبتل، فهرب لعالم ملذاته الحسية، ولكن المحصنة بالسمو الموسيقي. وحين قطعت عليه هيمنة الكنيسة الدروب لجأ الى فيينا، عاصمة الموسيقى آنذاك، ولكن الحرب النمساوية عطلت كل نشاط موسيقي، فمات من الحرمان ودفن هناك بعد فترة من وصوله في قبر جماعي مجهول.

أما الثاني فكان ابن عصر بريطاني على شيء من الرفاهية. بدأت موهبته مبكراُ، فوضع عدداً من الأغاني، الأوراتوريو، الرباعيات الوترية والسوناتات، وهو بعد لم يتجاوز الثالثة عشرة. في لندن تعرف على الشاعر أودن، فمنحه الشعر مصدر إلهام جديد. ولكن أجواء الحرب العالمية الثانية الخانقة جفّلته عن مستقره، فلجأ الى أميركا التي لم تخل من أزمات. وعبر القارتين وضع أعمالا مهمة، ولكن نضجه أثمر بعد العودة، أعمالا رائعة في فن الأوبرا والأعمال الكورالية مثل قداس الحرب الجنائزي.

كلا المؤلفين غزير الإنتاج، وكلا الإصدارين اللذين بين يدي ينصرفان الى ألأعمال التي تعتمد مصدرا دينياً لا دنيويا. مجموعة فيفالدي في 11 سي دي، تضم عددا من الروائع، لعل أقربهن الى النفس Stabat Mater الصافية بصوت طبقة الكاونتر تينور الرجالي. إلا أن الامتداد الحافل بالأسى حيناً، وبالحيوية والنشاط، أحياناً كثيرة ـ بين تناوب الكورس والمغني المنفرد والأوركسترا ـ هو تجوال رائع الغنى مع صاحب «الفصول الأربعة» الشهيرة.

والأجمل كأمن في الانتقالة التي تيسرها الاسطوانة الممغنطة من موسيقى القرن السابع عشر الى موسيقى القرن العشرين، حيث نواجه ألحان الاحتدام المعقد للعواطف البشرية لدى بنجامين بريتن، خاصة في عمله الكبير War Requiem (1971). على أن موسيقى بريتِن بصورة عامة ذات نقاهة ويسر، على ذائقة الناس الاعتياديين.