بدعة تكريس يوم وطني لميلاد فيروز

TT

تواطأ حوالي تسعين مثقفاً عربياً، على توقيع بيان مثير، يطالبون فيه الحكومة اللبنانية، باعتبار 21 نوفمبر (يوم ميلاد فيروز) من كل عام، عيداً وطنياً. وتأتي المبادرة بمناسبة بلوغ معشوقتهم عيدها السبعين هذا العام. وإذ تبدو الدعوة بمقدمتها الرومانسية وكلامها الشاعري، ومضمونها العاطفي، عصية على الرفض، غير قابلة للجدل ربما، ومغرية إلى حد كبير، فإن ثمة في المبدأ نفسه ما يستحق «لا» مدوية تحدث صدى على مدى سنين، لا يجرؤ بعدها مخلوق على المطالبة بأمر ممائل.

صفّر بعض اللبنانيين إعجاباً بالفكرة الجهنمية التي جاءتهم من خارج موطنهم، لتكرّم سفيرتهم إلى النجوم، شعروا ربما بوخزة ذنب تجاه السيدة القابعة بينهم، من دون أن يتذكروا ميلادها أو حتى وجودها. ثمة من زفر ملء رئتيه وقال بشجن معتق «ايه والله بتستاهل فيروز»، وتساءل آخرون «أما آن لها أن تكرّم في حياتها، ماذا ننتظر لنحتفل بها».

غواية الشيطان داعبت النرجسية اللبنانية وأوقعتها في المصيدة. مثقفون عرب تمتد جغرافيتهم من المحيط إلى الخليج يهدسون بالسيدة اللبنانية التي جعلتهم يحلقون فوق الغيوم، ويطالبون اهلها باليقظة من غفلتهم، والاستنفار لسداد دين في أعناقهم، ويتوسلون إليهم بعبارات لا ترد ولا ترفض، وكأنهم يسدون عليهم الطريق: «يكفينا ذعراً وفجيعة، فلا تزيدونا وحشة بتعاملكم مع مقترحنا هذا بأحاسيس ميتة».

عشاق فيروز العرب يحذروننا إذاً من أن نبقى جثة متبلدة أمام مطلبهم الحالم والملغم في آن. لكن، هل فكر هؤلاء مثلاً، بخطورة سابقة تكريس يوم وطني لمخلوق بشري مهما سمت منزلته وارتفعت وشهقت قامته؟ أوليس بيانهم نفسه مبحراً وبقسوة عكس أمواج الروح الفيروزية التي غنت عواصم العرب وتعففت عن زعمائها حتى من بلغ منهم موضع التقديس ذات يوم، وشدت بعظمتهم أكبر المواهب ؟ ألم يتبادر لهم أن فيروز ستسقط هاوية من عليائها إلى قاع سحيقة، لو قبلت بيوم لها سنوي، هي التي رفضت الشخصنة وإعلاء شأن الأشخاص، والتغني بهم.

فيروز تستحق منا الكثير، بعد أن أنقذت قطعاً من أرواحنا وحلقت بها خارج هذا الجحيم العربي، لكن تخصيصها بعيدٍ كفيلٌ بفتح ابواب السعير على مصراعيه. فمن يضمن الا يطالب مجانين هيفا بعد عشر سنين بيوم آخر لها، وثالث لنانسي ورابع لأليسا. «بعيد التشبيه» قالت صديقة شاعرة، وكأنها ذعرت للمقاربة، لكن الزمن يتغير، والمقاييس تتبدل، وتزن السابقة أحياناً، ثقيلاً جداً في تداعياتها.

ثمة من ابتكر عيداً للموسيقى، أو الكتاب. وللعامل عيده، وللمرأة والرقص والمسرح. وجعلت اليونسكو مدار أيام السنة جدولاً للاحتفالات بالمعاني الإنسانية والقضايا العالمية. ولكن لا يوم وطنياً ابتدعه الفرنسيون لمحبوبتهم إديت بياف، أو مدمنو السينما للرائد شارلي شابلن، ولا نتصور أن الأميركيين أو غيرهم سيقترحون يوماً في المستقبل القريب أو البعيد، للعبقري بيل غيتس، ولا نتمنى أن يبتدع المصريون عيداً لأم كلثوم.

إنها حقاً لدعوة غريبة هذه التي باغتتنا، في ظاهرها شعر وفي باطنها قهر.

إذ يقول الموقعون «لقد مللنا من موسيقى المارشات العسكرية. فالأعياد السياسية العربية تكاد تستبد بدروب الهواء الطيب». شيء من الغضب، وكثير من التطرف في مقاومة السياسي المتقهقر، المستبد، الذي يقضم أخيلتنا ولحظات الفرح المشتهاة. لنقل أن البيان لا ينطوي على طوايا خبيثة، ولا يشي برغبات غير نبيلة. انه، على ما فهمنا واقتنعنا، دعوة للحب والفرح والأمل، اختطت طريقاً خاطئاً، وانتهجت ما لا يليق بمثقفين واعين، يقرأون الحدث ويقلبونه على أوجهه كلها.

بإمكاننا أن نحتفل بفيروز وبأنفسنا معها، بألف طريقة وطريقة. لتكن ورشات موسيقى وغناءٍ ورسمٍ ورقصٍ من وحي فيروز، لنمسرح حياتها، لنكتب عنه الدراسات ونقيم حولها ما نشاء من حلقات الحوار والنقد، لنهدها حناجرنا تردد ألحانها في الساحات. كل الوسائل المشروعة متاحة لنقول لفيروز: «نحبك بقدر ما أنقذتنا من أحزاننا»، لكن القفز باتجاه الخطأ، ولو من باب حسن النوايا، قد تكون عواقبه كثيرا من الضحايا، وأولهم المثقفون الذين عليهم أن يتصدوا قبل أي أحد آخر، لفكرة تبجيل الشخص البشري، حتى ولو كان «طفلة الدهشة» و«مستنهضة الأحلام». فيروز «نبض قصيدة» نعم، وهي أيضاً «قيمة للحلم»، لكنها بالتأكيد ليست «معصومة من القبح» كما ادعى البيان، ولا هي محض قيمة معنوية نجردها من بشريتها ونتعامل معها، كنص منفصل عن سياقه. من المؤسف أن يسيء عشاق فيروز فهم رسالتها، وأن يطالبوا لها نكاية بالعفن السياسي، بتكريم على الطريقة التوتاليتارية التي يريدون الاحتجاج عليها، وان لا يستطيع المثقف العربي الخروج من مستوى رد الفعل إلى الفعل الابتكاري الخلاّق المتسامي، خاصة أن غالبية الموقعين هم من الشباب على ما لاحظنا.

نتمنى على وزارة الثقافة اللبنانية ان تكون قد أخذت علماً بالرغبة العربية في تكريم فيروز، وأن يحكّ المثقفون اللبنانيون رؤوسهم قليلاً ليقيموا للمرأة التي أفرحتنا عرساً، يليق بتاريخها العريق وحداثتها المقيمة التي لا تني تدهشنا بها. ونقول معتذرين: «ما هكذا تورد الإبل» يا عشاق فيروز.