أنطوان دوسانت إكزوبري يشغل العالم حياً وميتاً

صاحب «الأمير الصغير» يتلفع بضباب الأسطورة

TT

أجندة العبقري أنطوان دو سانت اكزوبري ما زالت تحتشد بالمواعيد، رغم مرور أكثر من ستين عاماً على وفاته. فلا يكاد يمر شهر إلا وتحتفي مدينة ما، في هذا العالم، بالرجل الذي أدهش الكبار والصغار معاً، وترجمت أعماله إلى لغات الأرض. فمنذ أيام فقط انتهى المؤتمر الذي انعقد حوله في تونس، وقبلها بأسبوع كانت نيويورك تستمع لأوبرا «الأمير الصغير» رائعته الأدبية التي لحنتها راشيل بورتمان، وجابت بها ولايات اميركية عدة. وبرنامج الأديب الطيار الذي سجل فتوحات كبيرة للإنسانية، وهو يحلق في الجو أو على صفحات الورق الأبيض، يمتد طوال عام 2006، ليس فقط لأنه ما زال يفرح وينعش بل لأنه يحيّر. فكلما تحقق كشف حول مساره ومصيره، ازداد أمره غموضاً وضبابية، وتحرّق عشاقه إليه شوقاً.

روت كونسويلو أسونثين، أرملة الكاتب الفرنسي أنطوان دوسانت إكزوبري (1900 ـ 1944)، في «مذكرات الوردة»، الذي صدر عام 2000، عقب وفاتها، أن زوجها وصف لها ذات يوم مشاعره كغريق تحطمت طائرته فوق البحر فقال: «إنه من السهل أن يموت الإنسان غرقا. دعيني أروي لك ذلك: يجب أن يدرك المرء بسرعة، أنه لن يستطيع تنفس الأوكسجين، بل يجب أن يتنفس الماء بواسطة رئتيه: ينبغي ألا تسعلي، فالماء يجب ألا يتسرب عبر أنفك. ستشعرين بالراحة، مثلي، وأنت تتنفسين جرعة الماء الأولى. إنه بارد، وكل شيء سيكون على ما يرام بعد ذلك».

لغز لم تحله السنون

قبل إحدى وستين سنة فقدَت في مكان ما من الساحل الفرنسي الطائرة المقاتلة التي كان يقودها أنطوان دوسانت إكـزوبري، مـؤلف «بـريد الجنوب»(1929)، و«التحليق الليلي»(1931)، وبصفة خاصة «الأمير الصغير» (1943) الذي وضعه، وهو في منفاه الاختياري بنيويورك، ويعتبر من أكثر الكتب مبيعا في العالم بعد القرآن الكريم والإنجيل و«رأس المال» لكارل ماركس. لقد مضت السنون إذن منذ ذلك الصباح الباكر، الذي أقلعت فيه من مطار باستيا، بجزيرة كورسيكا، طائرة سانت إكزوبري لإنجاز مهمة التعرف على التحصينات الألمانية، وتصويرها من الجو، تمهيدا للإنزال الذي كان الحلفاء يخططون للقيام به في منطقة (لا بروفانس) بجنوب فرنسا، والذي كان من المنتظر أن يشارك فيه الآلاف من الجنود المغاربة. لكن من الواضح أن الزمن، خلافا للمتوقع، لم يتقدم دقيقة واحدة منذئذ، ذلك أن الروائي الفرنسي لم يفتأ أن غدا أسطورة، كما أن اختفاءه الغامض لم يلبث أن صار أحد أكبر الأسرار في تاريخ الأدب الحديث.

فما الذي حدث في ذلك اليوم الأخير من أيام شهر يوليو (تموز)، وبالضبط في الساعة الواحدة والنصف بعد الزوال عندما اختفت طائرة الكاتب من على شاشة رادارات القيادة العامة الأمريكية؟ هل أسقطت طائرته من طرف المدافع الألمانية المضادة للطائرات؟ أم أنها تهاوت في الفراغ بسبب عطب ميكانيكي؟ أم بسبب حادث اصطدام؟ أم أن الأمر لا يتعلق سوى بانتحار؟ إن الذين يرجمون بهذا التخمين الأخير يستدلون بكون الكاتب، قبل الخروج لإنجاز مهمته، ترك ورقة صغيرة كتب فيها: «لو أسقطوني فلن أستغرب من شيء. إن جحر نمل المستقبل يخيفني، فلقد ولدت لأكون مجرد بستاني. وداعا». أم تـُرى أنطوان دو سانت إكزوبري اصطنع موته، ومضى للعيش في مكان مجهول، بعيدا عن العالم، ربما في صحراء المغرب، التي كان يعرفها شبرا شبرا؟

لقد سادت هذه التخمينات لدى المحققين والفضوليين وعشاق الكاتب مدة طويلة، مصحوبة بأسئلة يصعب الإجابة عنها، لكنها جميعا ساهمت في تضخيم أسطورة ذلك الروائي، الذي كان محاربا باسلا، وكان قد كتب ذات يوم: «ليست الحرب مغامرة، إنما هي مرض عضال».

لقد تم التعرف مؤخراً على قطعة من طائرة سانت إكزوبري وذلك شرق جزيرة دِيّو الواقعة قبالة سواحل مارسيليا، وهو بالضبط الموقع الذي سبق لصياد أسماك، في سنة 1998، أن عثر فيه بين تلافيف شباكه على سوار ذهبي ملفوف في قطعة ثوب تنتمي لبزة عسكرية، وقد نقش في السوار اسم الكاتب واسم زوجته السلفادورية ( كونسويلو)، وكذا عنوان ناشر كتبه في نيويورك. وللتذكير فقد تعرف سانت إكزوبري على (كونسويلو أسونثين) (1901 ـ 1979)، وكانت رسامة ونحاتة وكاتبة، في بوينوس آيريس سنة 1931، حيث عرض عليها حينها أن يحلق بها على متن طائرته للإشراف على العاصمة الأرجنتينية من الجو، وهناك أقسم أنه سيعمد إلى تدمير الطائرة، إذا لم تقبل الزواج منه في الحال. لم تجد المرأة بدا من الإذعان لرغبته الجنونية توا فاقترنت به، لكن حياتهما الزوجية، التي كانت حافلة بالأصدقاء من كبار الكتاب الفرنسيين مثل أندريه جيد وأندريه موروا وأندريه بروتون، وكبار الرسامين من أمثال بيكاسو ودالي وميرو، كانت أيضا جحيما يوميا طافحا بالخصومات والخيانات المتبادلة.

ورثته لا يريدون الجثة

منذ العثور على السوار الذهبي تكاثفت عمليات البحث عن مخلفات أخرى للكاتب، مثلما تكاثف الجدل حول ما إذا كان من اللائق القيام بذلك أم لا. لقد قامت عدة سفن بالبحث عن الكنوز القابعة في أعماق البحار وبالتنقيب في الموقع، لكن من دون نتيجة تذكر. لم تكن تلك هي المرة الأولى: ففي سنة 1992 قام «معهد الأبحاث الفرنسي لاستغلال البحار» بمسح أعماق ساحل مدينة نيس بواسطة غواصات صغيرة، مجهزة برادارات وأجهزة سبر صوتي، لكن بعد تمشيط مائة كيلومتر مربع اعترف المنقبون بهزيمتهم. وكانت عملية التنقيب هذه تعتمد على ما دونه رجل من قرية مجاورة لمدينة نيس في يومياته، حيث ورد فيها أنه شاهد «في منتصف نهار 31 يوليو 1944 طائرة حربية تصطدم بسطح البحر».

يبدو اليوم أن اكتشاف طائرة سانت إكزوبري لم يعد مجرد تخمين، وخاصة بعدما عثر الغواص لوك ?انيل على علامة الطائرة في مايو (أيار) 2000. لكن الحصول على إذن السلطات وعائلة الكاتب في استخراج تلك المخلفات لم يتم إلا في أكتوبر (تشرين الأول) 2003. لم يكن ذلك بالأمر السهل، وذلك لأن ورثة سانت إكزوبري كانوا يرفضون في السنوات الأولى لاختفائه التعرف على الجثامين التي كان البحر الأبيض المتوسط يلقي بها على شواطئ نيس، بل إنهم قاوموا بشدة كل محاولات استخراج جثمانه من جوف الماء، وإن لم يعودوا يعارضون انتشال بقايا طائرته المحطمة.

جاذبية الأسرار وصونها

تعتبر عملية النبش على بقايا ميت ونقلها بغية دفنها في مكان معلوم، أمرا معقدا في غالب الأحيان، خاصة وأنها تضع حدا للسر الذي قد يكون الإبقاء عليه كما هو جذابا وربما مجزيا. لقد دار نقاش من هذا القبيل في إسبانيا حول الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا، وقبره الذي لا يحمل اسما في غرناطة. لكن حالة سانت إكزوبري مختلفة تماما عن حالة مؤلف «الرومانثيرو الغجري»: فما ارتكبه الفاشيون الإسبان في حق الشاعر من إهانات قبل إعدامه رميا بالرصاص معروف لدى الجميع، أما ما حصل للروائي الفرنسي لحظة سقوط طائرته، فلا يزال مجهولا إلى اليوم.

لذا يمكن القول إن الموت البطولي المحفوف بالأسرار يناسب تماما سيرة مؤلف «التحليق الليلي»، لكونه كان خاتمة منطقية لحياة مليئة بالمغامرات، وعلى صلة وثيقة بمشاكل عالم الطيران في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي: فلقد عمل الرجل في بادئ الأمر ربانا تجاريا لإحدى شركات البريد الجوي، قبل أن يلتحق بالطيران العسكري الفرنسي في سنة 1939 حيث أنجز مهام خطيرة حصل على إثرها على عدة أوسمة من بينها وسام «جوقة الشرف» ذائع الصيت. وفي مستهل الحرب العالمية الثانية، وعقب احتلال بلاده من طرف جيوش هتلر، اضطر للذهاب إلى نيويورك، بيد أنه سرعان ما استجاب لنوازعه الرومانتيكية التي يتداخل فيها حب الطيران بحب الوطن والأدب والحرية، فقرر الانخراط في صفوف المقاومة رغم تهافت حالته الصحية.

إكزوبري

بقيت الإشارة إلى أن كتابات أنطوان دوسانت إكزوبري تستمد خصوصيتها من حياته كرجل فعل ومكابدة، لذا عبرت عن انشغاله العميق بالوجود الإنساني، ورغبته في العثور على معنى خلقي وروحي لهذا الوجود، وسط فضاءات تتسم بالعزلة والوحدة. لقد عمل في البريد الجوي الفرنسي (آيرو بوستال) على الخط الرابط بين الدار البيضاء وداكار، كما حطت طائرته مرات عديدة في صحراء المغرب، لذا يبدو من غير الممكن غض الطرف عن العلاقة الوثيقة لبعض مؤلفاته، وخاصة «أرض الرجال» و«الأمير الصغير» و«القلعة» ، بالتجارب التي استوحاها من تردده على فضاءات طالما عّبر عن عشقه لها: الدار البيضاء (خاصة المدينة القديمة) والرباط ( التي شبهها في إحدى رسائله بـ«الوردة البيضاء ») وتازة ومراكش.

إنه بالإمكان تصور صيرورة ما تحكمت في مصير أنطوان دوسانت إكزوبري: ففي كتاب مذكراتها الذي يحمل عنوان «خمسة أطفال في الحديقة» (2000) روت أخته سيمون أن الكاتب، قبل سعيه إلى تعلم الطيران للحصول على شهادة ربان، كان قد قرر، في يونيو (حزيران) 1920، الالتحاق بـ«مدرسة الملاحة البحرية»، وشارك في المباراة التي نظمت لذلك، لكنه رسب في الاختبار الشفوي بسبب ضعفه في مادتي التاريخ والجغرافية، وفي الاختبار العملي بسبب عجزه عن السباحة بصورة سليمة.

فهل كان ذلك نذيرا مبكرا بأن السماء والماء سيكونان نقيضين في حياته؟